د. عبدالله بو حبيب
يُصوّر البعض التعطيل الحاصل اليوم للسلطتين التشريعية والإجرائية كأنه بدعة ابتكرها الجنرال ميشال عون. في الواقع، بدأ التعطيل في السلطة الإجرائية في تسعينيات القرن الماضي وأُستعمل تعبير «الاعتكاف» وقتذاك.
وأصبح التعطيل «موضة» منذ العام 2005 بعد انتهاء عهد الوصاية السورية. الشلل والتعطيل اللذان يشهدهما لبنان منذ العام 2005 فاقا خلل اعوام الحرب اللبنانية، وكلنا يعرف من المسؤول عن كل تعطيل حصل. فقد اقفل وعطل مجلس النواب لسنوات. وطال تأليف حكومات لأشهر ووصل مجموع سنوات «تصريف الاعمال» الى ثلث عهد الرئيس السابق. ووقع الشغور في سدة الرئاسة مرتين. وعندما كانت المؤسسات كلها مكتملة العقد، ساد التعطيل المتبادل العمل الوزاري والنيابي.
أما خلال الحرب (1975-1990)، فلم يشهد لبنان تعطيلاً لأي من السلطتين، وابتكر اهل السلطة «المرسوم الجوال» عندما منع «المفوض السامي السوري» اجتماع مجلس الوزراء. ورغم سطوة الميليشيات على معظم مرافق الدولة المالية، لم يحدث ان هُدد موظفوها بعدم دفع معاشاتهم.
اليوم، تعطيل «التشريع» أتى نتيجة رفض رئيس ومكتب مجلس النواب ومكتبه إدراج بندين على جدول اعمال الجلسات المنوي عقدها. يتعلق البندان بمشروعَي قانون جديد للانتخابات وقانون استعادة الجنسية، وهما مدفونان في اللجان منذ سنوات. كذلك، فإن وضع البندين على جدول اعمال جلسات مجلس النواب لا يعني بالضرورة اقرارهما، انما ان يبحثهما النواب مجتمعين بعدما فشلت اللجان في تقديم توصية بشأنهما.
اما تعطيل مجلس الوزراء فكان نتيجة الاخلال بتطبيق الدستور وخاصة المادة 65 منه التي تنص على ان «تعيين موظفي الفئة الاولى وما يعادلها… يحتاج الى ثلثي عدد اعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها». والمقصود هنا الشغور في منصب المدير العام للأمن الداخلي. كان على الوزير المختص ان يتقدم قبل موعد احالة المدير العام للتقاعد، بثلاثة اسماء مع سيرتهم المهنية ليختار مجلس الوزراء احدهم مديراً عاماً.
تقضي الاصول، في حين فشل مجلس الوزراء في اختيار احدهم، ان يبحث الموضوع مجددا في جلسات متتالية. فإذا ما شغر المنصب، يستلم الاعلى رتبة في الجهاز بالوكالة ادارة المؤسسة الى حين توصل مجلس الوزراء الى اختيار مدير عام جديد.
لكن الوزير قرر التمديد للمدير العام دون العودة لمجلس الوزراء. هذا القرار مناقض للدستور ولمنطق العيش المشترك واتفاق الطائف برمته. إضافة لذلك كان كل الوزراء، وخاصة الوزير المختص، يعلم بان قرار تجاهل الدستور واتفاق الطائف سيؤدي الى الحالة المؤسفة التي وصلت اليها البلاد: تعطيل السلطة الإجرائية.
وما يزيد الطين بلة ان الذين يتذمرون من تعطيل المؤسسات يريدون السير بالامور وكأن الدستور والميثاق والطائف لم تمس. فبدلا من ان يطلب هؤلاء تطبيق الدستور واحترام متطلبات الميثاق الوطني واتفاق الطائف، يعملون على قاعدة: ضربني وبكى وسبقني واشتكى. وبدلا من ان يكون الوضع الإقليمي سببا للاتفاق بين أهل الحكم، يبدو انه يستعمل مبررا لتجاهل الدستور والميثاق والطائف. فالذين ينكرون على المطالبين حقهم بتطبيق القوانين المرعية، يراهنون على تغيير في الموازين والمعادلات الإقليمية، وخاصة في سوريا، من اجل فرض هيمنتهم مرة اخرى – المرة الاولى كانت بمساعدة النظام السوري الحالي – على لبنان. وهنا من المهم التذكير بتجربتين من لبنان والمنطقة:
الاولى تتعلق بلبنان: لا يمكن، لا بل انه مستحيل هيمنة فريق واحد على لبنان. يبدو ان بعضنا لم يتعلم من خمس عشرة سنة حرب وخمس عشرة سنة وصاية سورية، على ان لبنان بلد متعدد الهويات الطائفية والمذهبية والإثنية والاجتماعية، وان الطريقة المثلى للعيش المشترك هي في تفاهم الجميع على الوفاق والخلاف، واحترامِ بَعضِنَا بعضا والسيرِ حسب مقتضيات الدستور والميثاق والطائف.
والتجربة الثانية تتعلق بالحروب الأهلية: إن معظم هذه الحروب ومنها الحرب السورية تنتهي بلا غالب ولا مغلوب، وفي كل من هذه الحروب جولات يتبادل فيها الافرقاء الربح والخسارة. ان خسارة النظام السوري منذ شهرين لا تعني، ولن تعني ان اخصامه ربحوا الحرب، وإنما ربحوا جولة في هذه الحرب المدمرة. لذلك، ان المراهنين على سقوط النظام في سوريا لن يخسروا وحدهم اذا خسروا رهانهم او طال زمن الحسم، إنما يخسر معهم كل لبنان واللبنانيين، لان الثقة بين مكونات الوطن، بدأت بسبب رهاناتهم الخاطئة، تتلاشى لا بل تنهار، ومن ثم سيصعب اعادة بناء الوطن مجددا.
مسؤولية «ضبط» الأمور تقع على رئيس الحكومة الذي لا يزال يلعب دور رجل الدولة بامتياز، رغم تجاهله للقرار غير الدستوري الذي أوصل البلاد الى هذا النفق المظلم. لقد زادت مسؤولية رئيس الحكومة الدستورية بعد الشغور في الرئاسة الاولى. لم تعد مسؤوليته الاولى الدعوة الى جلسة مجلس الوزراء ووضع جدول أعمالها وحسب، إنما ايضا السهر على دستورية القرارات التي تقرها الحكومة والتي يصدرها الوزراء من دون ان تبحث في اجتماعات مجلس الوزراء، بالاضافة الى عدم مس اتفاق الطائف والميثاق الوطني.
ان الاستمرار في تجاهل مس الدستور والميثاق الوطني واتفاق الطائف، خاصة في هذه الظروف الإقليمية الصعبة، قد يجعل الاستمرار في اتفاق الطائف الذي، على كل حال لم ينفذ منه سوى انتقال صلاحيات رئيس الجمهورية الى مجلس الوزراء «مجتمعا»، أمرا مستحيلا.
****
(*) جريدة السفير، الأربعاء 24 حزيران 2015.