الكاتب بلال حسن التل
قلنا في المقال السابق إن جماعة عمان لحوارات المستقبل ستعمل من خلال رؤية متكاملة لقضايا بلادنا سياسيا واقتصاديا وتربويا، وهذا يستدعي ان تتبنى جماعة عمان الدعوة للتنمية الشاملة بكل أبعادها، اي اننا نريد العمل لإحداث تنمية حضارية شاملة يكون بناء الانسان المتوازن محورها وبيئته المتكاملة والملتزمة بقيم الأمة وفكرها و حضارتها ووعائها.
وهذا يستدعي من الجماعة الاهتمام بالمضامين بمقدار اهتمامها بالأطر، ان لم يكن أكثر، فعندما نتحدث عن حاجتنا الى تطوير مناهجنا الدراسية، فإن الاهتمام الاكبر يجب ان ينصرف الى اهداف هذه المناهج ومضامينها التي يجب ان تتجسد في مضامين الكتب الدراسية لتحقق هذه الاهداف، ومدى تطابقها مع القيم الاصيلة لأمتنا.
فلئن كانت حقائق العلوم التطبيقية واحدة، فان استنتاجات العلوم الانسانية غير ثابتة، ولا تخضع لنتائج المختبرات، بل تخضع كثيرا للتجارب الانسانية على الصعيدين (الفردي والجماعي)، وهي بالتأكيد تجارب محكومة ببيئتها وبمنظومتها القيمية. وهنا تكمن المصيبة التي احدثت الانفصام النكد بين شرائح مجتمعنا، عندما أخذ بعض ابناء الامة ما وصل اليه العقل الغربي في مجال العلوم الانسانية كمسلمات يجب ان تطبق في بلادنا، وهو ما لم تفعله مجتمعات اخرى، كاليابان والصين التي اخذت من الغرب العلوم التطبيقية، وحافظت في الوقت نفسه على نسيجها الاجتماعي بكل قيمه وتقاليده.
ولقد زاد من خطورة الانفصام بين شرائح مجتمعنا تعدد الفلسفات التعليمية في بلادنا وتباينها، خاصة بين المدارس الخاصة وما يجري فيها وما تقدمه لطلابها من جهة، وبين المدارس الحكومية وما يجري فيها وما تقدمه لطلابها، والأخطر من ذلك تباين المرجعيات الفكرية التي يرتكز اليها واضعو المناهج والكتب الدراسية في بلادنا، وهو التباين الذي انعكس كل هذا الذي نشكو منه من مخرجات التعليم في بلدنا، من هنا كان ملف التعليم من أخطر وأهم وأول الملفات التي انصرف اليها اهتمام جماعة عمان
علما بانه لن تتم عملية نهوض حقيقية للمجتمع ما لم يتم توطين العلوم والمعارف بلغة البلاد الأصلية.. ذلك ان الحضارة العربية الاسلامية لم تقم الا بعد ان وطّن علماء الأمة العلوم والمعارف باللغة العربية عبر الترجمة، فصارت العربية لغة الثقافة والعلوم، وهو بالضبط ما تم بعد ذلك في اوروبا التي ترجمت العلوم والمعارف من اللغة العربية الى اللغات الاوروبية لتقوم على اساسها النهضة الغربية، التي لاتزال تسود العالم الى يوم الناس هذا.
إننا ونحن نتحدث عن عملية النهوض الحضاري الشامل لبلادنا لابد لنا من ان نقول: إن على جماعة عمان أن تطرح على نفسها ومن ثم على كل مكونات مجتمعنا سؤالًا جوهريا هو: اين نحن من الحضارة، وما هو حجم مساهمتنا فيها؟ ومن ثم فإن علينا ان نسعى الى الإجابة عن هذا السؤال من خلال إعمال العقل النقدي لواقعنا، لا لنقف عند حدود النقد السلبي الذي يزيد أبناء مجتمعنا إحباطا على إحباط، فليست هذه من مهمات جماعة عمان.. على العكس من ذلك، فإن من اول مهماتها التخلص من الروح السلبية التي تنشر في اوساطنا التشاؤم والإحباط من خلال الاكتفاء بالبحث عن العيوب وابرازها والتركيز عليها، دون العمل على معالجتها، فجماعة عمان باعتبارها حركة تنويرية ذات نظرة مستقبلية تسعى لبناء المستقبل دون ان تتقيد بأغلال الماضي الذي تنظر اليه على انه جزء من تجربتنا الحضارية التي لها وعليه، فان مهمتها ان تسعى الى استخلاص عناصر التقدم من هذه التجربة للبناء عليها واستكمالها من خلال إغنائها بما وصلت اليه العلوم التطبيقية في هذا العصر، واستنهاض وتجديد كل القيم الايجابية في حضارتنا نحن، بما فيها من ابعاد انسانية.. وبذلك تسهم جماعة عمان في تقديم إجابة عملية إيجابية عن سؤال: أين نحن من الحضارة والفعل الحضاري.؟
*****
(*) رئيس “مركز البيرق للدراسات والمعلومات” ومؤسس “جماعة عمات لحوارات المستقبل” وصاحب وناشر جريدة “اللواء” الأردنية.