كلود أبو شقرا
“أعترف أولا بأنني سمحت لنفسي بالانشغال عن الشعر في أمور كثيرة فرضتها متطلبات الحياة، لكنه
ظل كامناً فيّ يطلق تجلياته بين الحين والآخر واهباً دفاتري المقفرة أغصاناً تأوي إليها طيوري المهاجرة”، بهذا الاعتراف الأول دخلت الشاعرة نهاد الحايك في رحاب الشعر، هذا الهيكل الذي أرادته في قصائدها ملجأ ً تخبئ في حناياه بعضاً من حياتها بحلوها ومرها، وتعيش فيه أحلامها التي تؤجج ملكة الشعر عندها من دون أن تبتعد عن الواقع، بل تواجهه بقوة الصورة الشعرية وتضع يدها على الجراح النازفة في خاصرة الإنسان والمجتمع.
اعترافات نهاد حايك ضمها ديوانها الأول الصادر حديثاً “اعترافات جامحة” (دار سائر المشرق)، قدم له الدكتور جورج زكي الحاج. لوحة الغلاف والرسوم الداخلية بريشة الرسامة جاكلين جبر.
حول جديدها كان الحوار التالي معها.
ما الذي يحرّك قلمك للكتابة؟
حياتي الداخلية غليان تنصهر فيه تجاربي وقراءاتي وعلاقاتي بالناس.وهذا الغليان لم يكن يهدأ إلا بالكتابة، ولكن فقط إلى حين. وكنت أسأل: هل الشعر وسيلة أم هدف؟ ولم أستطع يوماً التمييز، بل بدا لي دوماً أنه الهدف والوسيلة في آن.
في قصائدك مكان واسع للحلم، هل هو هروب من واقع لا نستطيع تغييره؟
هذه الحياة ما كانت لتطاق لولا الحلم، وعندما لا يتجسّد الحلم في الفن يتبدد دخانًاَ يغشو عيوننا. وإذا كان الإنسان يحلم بقدر جميل ومصير هانئ، فالكلمة تتوق إلى الشعر قدرًا ومصيرًا وسؤالا مشتعلا على الدوام، والشعراء ينمون فينا قابلية الحلم ويضرمون في هشيم أيامنا شعل
الغربة والحرب يبدو أن لهما علاقة وارتباطاً وثيقاً في شعرك، ما الذي يؤججهما؟
أنا أنتمي إلى الجيل الذي صُدم وعيه المتفتح للحياة بوحش الحرب في لبنان ينهش جسد الأرض ويرهق أرواح الناس ويبدد الأعمار ويسمم دم الأحلام. وما زال هذا الوحش ماثلا حتى اليوم وإن بأشكال محتلفة.
ورُبّ سائل كيف للإنسان أن يصبح بالرغم من الحرب شاعرًا؟ أي تجربة مهما كانت أليمة أو قاسية تصبح ممتعة عندما تمرّ في مصفاة الشعر. ويقال إن الألم هو منبع كل قصيدة أيًا كان موضوعها أو مناخها. ما من شيء كان أقرب إلي (وإلى جيلي) من الموت، في وطن تقوقع في خوفه يقتات بدم أبنائه ليخلص من الهلاك. تسللت مرارة الحرب إلى كل تفاصيل حياتي. مرّت ريشتها السوداء على ألواني وطغى أزيز الرصاص ودوي المدافع وبكاء المفجعين على أصواتي الداخلية. عُجن شعري بها.
ورغم ذلك بقيت الحياة مغامرة جميلة قضيت العمر بحثًا عن معناها. فالإنسان، هذا المتفائل العنيد، ما من قوة تُشفيه من تفاؤله، ولعلّه يجد في الشعر شفاءه من شقائه وعزاءه من لا جدوى الوجود.
نلاحظ أن قصائدك مجموعة مَشاهد تمر كفيلم سينمائي، فهل يعود ذلك إلى كم الصور المخزنة في قلبك وذاكرتك التي تودين أن تضمها قصائدك وتخشين أن تضيع منك؟
أنا أكتب لأني أخشى أن أضيع. فالكتابة أبقى من الكاتبة. وعزاؤنا أن بقاء ما نكتبه من بعدنا هو استمرار لنا بعد الموت. تشبيهك للقصائد بمشاهد تمر كفيلم سينمائي، تشبيه صائب، لأن هذا أسلوبي بالفعل. فأنا أعمد في الكتابة الشعرية إلى إضفاء مشهد ما على أي موضوع أريد الكتابة عنه، أياً كانت درجة التجريد الشعري. لا أروي قصة بطريقة مباشرة مسطحة بل أصقل خلاصاتها في صور تبقى ملتصقة في خيال القارئ لشدة تعبيرها.
مثلاً: “على العقول عَــبَــر الطغاة/ أطعَموا الأرض أسماء/ رصَّعوها بالصور/ مزجوا ترابها بالدماء/ فتسرَّبت من بين الأصابع”. تُصوِّر هذه السطور، كما في مشهد سينمائي سريع وآسر، مأساة وطني وأوطان كثيرة أخرى. الصور المخزنة في قلبي وذاكرتي وفكري، عندما أترجمها إلى نص شعري، تخرج من الذاتية لتعانق قلب وذاكرة وفكر القارئ. وفي هذه العملية، أغوص في نفسي لأستخرج منها مرايا يرى القراء فيها انعكاساً لذاتهم. فإذا لم يجد القارئ نفسه في كتاباتي، أكون قد تلوت أناشيدي في صحراء وتلاشى حبري في الهباء.
ترسم القصائد صورة امرأة تمردت على واقعها وأرادت أن تمسك بمصيرها بيدها لتصنع حياتها باستقلالية، فهل وصلت المرأة في الشرق إلى هذا النضج الذي يخولها صنع حياتها بنفسها بعيداً عما يحيط بها؟
أنا سعيدة بأنك وصلتِ إلى هذا الاستنتاج، مع أن أياً من قصائدي لا تتحدث مباشرة عن المرأة في نضالها للاستقلالية وامتلاك قرارها. ولكن حياتي جسدت ذلك. وأنا مدينة لوالديّ بتوقي إلى الاستقلالية. فقد زرعا في نفسي حب العلم والمعرفة، ووفّرا لي الموارد اللازمة، رغم الظروف الصعبة، لتحصيل العلم في أهم المدارس والجامعات الخاصة العالية التكلفة، وذلك على حساب رفاههما. وتعلمت منهما أن علم المرأة وعملها هما سلاحها في الحياة وأن استقلالها المادي ضمانة لها ولكرامتها.
ومنذ نعومة أظافري، كنت ألاحظ وضع المرأة في مجتمعنا وما تعانيه من إجحاف وظلم وتهميش وتقليص لدورها إلى مجرد آلة منتجة للأطفال ومربية وتهتم بالشؤون المنزلية. الأمومة دور مقدس تتفرد به المرأة وأنا لا أنكر ذلك، ولكن لا أوافق على أنه دورها الوحيد. فالمرأة قادرة على خوض مجالات كثيرة جنباً إلى جنب مع الرجل يتشاركان في القرار والإنتاج والإبداع والاقتصاد والسياسة وكل شيء في الحياة العامة. ومن واجب المجتمعات والدول أن تكرس حضور المرأة في مواقع صنع القرار لتكون مشارِكة في القرارات التي تؤثر على حياتها وعلى مسار مجتمع تشكل هي نصف تعداده.
قطعت المرأة في الشرق أشواطاً في هذا الاتجاه بفضل جهود نساء تجرأن على الخروج من شرنقة حياتهن المنزلية إلى مضمار العلم والعمل، وأيضاً بفضل رجال آمنوا بطاقات المرأة وبدورها المهم وسهلوا لها الطريق، ولكن أحياناً رغم أنف رجال اعترضوا على ذلك. وما زالت أعداد كبيرة من النساء يعانين من الفقر والأمية ويدفعن أكثر من غيرهن ثمن تقاعس الأنظمة عن توفير الحياة الكريمة للناس. أما المخاض الذي تمر فيه المنطقة العربية حالياً فهو يكاد يطيح بكل ما حققته المرأة العربية من إنجازات، ويهدد بالعودة ليس إلى قمع المرأة فحسب بل أيضاً إلى قمع الشعوب.
في زمن الإنترنت وخفوت لغة الشعر أصدرت ديواناً شعرياً، فهل يعني ذلك أن لا شيء يقوى على سطوة الكلمة والكتاب؟
عندما ظهر التلفزيون قيل إنه سيقضي على السينما، ولكن ذلك لم يحصل. أما الإنترنت، فمن حسناتها أنها أتاحت مصادر المعرفة على أوسع نطاق وفتحت باب التواصل بين الناس على مصراعيه. فهل يستفيد العرب من ذلك؟ أو يستخدمون الإنترنت لغايات أخرى تمعن في نشر التخلف؟ لغة الشعر خافتة منذ ما قبل الإنترنت، ومع ذلك نشهد ازدياد عدد الكتّاب رغم تناقص عدد القراء. من الكتّاب مَن استفاد من الإنترنت لنشر كتبه بسبب ارتفاع تكلفة الطباعة والنشر، ولأن هذه الوسيلة تسمح بزيادة عدد القراء أيضاً. وهذا أمر جيد. ولكن الكتاب الورقي لا يُهزم. ما زال موجوداً وبقوة لا أعرف سرها.
تجوّلي في معارض الكتب تجدي آلاف الكتب المنشورة. ولكن ما هو مصير هذه الكتب وهل تباع وتُقرأ؟ هنا بيت القصيد. فمعظم دور النشر تطبع على حساب الكاتب وبالتالي تكون قد حققت مكسبها سلفاً وقد لا تهتم بالبيع جدياً لاسترجاع التكاليف وتحصيل الأرباح، فتنتهي مئات النسخ في المخازن لتتلف بعد حين.
أنا ترددت كثيراً قبل أن أُقدم على النشر في زمن بات القراء – وخصوصاً قراء الشعر – فئة آيلة إلى الانقراض. ولكنني، ككثيرين غيري من الشعراء والشاعرات، نشرتُ إيماناً بأن القصائد، وكل الأعمال الإبداعية، لا تكتمل إلا عندما تصل إلى القارئ أو المتلقي، حتى لو كان عدد القراء ضئيلاً.
نشرتُ كتاباً ورقياً وأعتبره أغلى وأرقى ما أملك. أراه، ألمسه، أتصفحه، أشم رائحة ورقه وحبره، ويحتل مكاناً ملموساً حقيقياً في مكتبتي. وفي الوقت نفسه أرحب بالكتاب الإلكتروني، وفي اعتقادي لن يلغي أحدهما الآخر. قد يستغني الناس عن الورق في وثائق كثيرة، ولكن الكتابة الإبداعية حتى ولو فُتحت أمامها أوسع المساحات الافتراضية، لن تكون في أمان إلا على الورق وبين دفَّــتَي كتاب. وأضيف إلى سؤالك بعداً آخر وهو كيف نستطيع النشر في هذا الزمن البائس والمذري الذي يمر به بلدي وسائر المنطقة. بالفعل هذا ما شعرت به وقد قلت في حفل توقيع ديواني من ضمن الأنشطة المرافقة لمعرض الكتاب العربي الدولي في بيروت:
“في هذا الشرق الذي نامت حضارته وبات يرقص على نومها قاطعو الرؤوس وناحرو النفوس باسم الدين،
ومع امتداد عذابات هذا الوطن وأهله،
ورسوخ الظلم والاستبداد والزحف والفساد،
وجدتُ نفسي متلبِّسةً في عملية نشر ديوان شعر!
وجدتُ نفسي أؤمن بأن إصدار كتاب هو حدث سعيد وسط طوفان المرارة الغامرِ قلوبَنا وأحلامَنا المكسورة.
وها هي آلاف الكتب تصرخ “لا” في وجه الانحدار والتخلف، في انتظار قيام الدول العادلة والديمقراطية التي كِدنا نُصدق أنها اقتربت من البزوغ”.
*****
(*) بالاشتراك مع aleph- lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com