أنا اخترتُكم وأقمتُكم، لتذهبوا وتعطوا ثمارًا، وتدوم ثماركم” (يو 15: 16)
1. هو الربُّ يسوع اختار كلَّ واحدٍ منّا، بتجسّدِه وعملِ الفداء والتقديس، لكي يصلحنا. اختارنا برحمةٍ منه ونعمة، بدون أيِّ استحقاقٍ مسبَق منّا. بل نعمتُه أصبحت مصدر استحقاقاتنا. وأقامنا لنذهبَ ونعطيَ ثمارًا وتدومَ ثمارُنا. هو أقامنا لأنّنا بدونه لا نستطيع أن نفعل شيئًا (يو15: 5). ونحن نذهب على طريقه، وهو الطريق، نسير على خطاه ونقتدي به. نذهب لنعطيَ ثمارًا تدوم، هذه الثمار هي المحبةُ وكلّ ما تؤتي من أعمالِ خيرٍ ومبادرات، وما ينتج عنها من فضائلَ وصفاتٍ وقيَم.
2. ما أجملَ سماعَ كلامِ الربّ هذا في المناسبتَين اللَّتين تجمعانِنا: مناسبةُ مرور مئةٍ وأربعين سنةٍ على تأسيس صرح الحكمة، مدرسةٍ وجامعة، بدعوةٍ مشكورة من رئيسَيهما الخوراسقف كميل مبارك والخوري عصام ابراهيم؛ واليوبيلِ الذهبيّ الكهنوتيّ لوليِّ هذا الصرح، سيادةِ أخينا المطران بولس مطر، رئيس أساقفة بيروت السامي الاحترام.
هذا الكلامُ وجّهه الربُّ يسوع إليك، أيّها الأخُ الجليل المطران بولس، يوم رسامتك الكهنوتية منذ خمسين سنة، وجدّده لمسؤولياتٍ أكبرَ يوم رسامتك الأسقفية منذ أربعٍ وعشرين سنة. كلُّها سنواتٌ غنيّةٌ بثمارٍ، من فضل الله ونعمه، يصعب بل يستحيل تعدادُها.
ووجّهه إلى كلّ الذين دعاهم ماضيًا ويدعوهم اليوم للعمل التربوي في المدرسة والجامعة، إداريّين ومعلّمين؛ وإلى الطلّاب الذين ارتوَوا ويرتوون اليوم، كما السابقين، بالعلم والأخلاق، بالإيمان والمعرفة، من صرح الحكمة، وراحوا يُثمِّرون وما زالوا في شتّى الحقول، في لبنان والمنطقة ودنيا الانتشار.
3. يسعدنا أن نحتفل معًا بهذا القداس الإلهيّ اليوبيليّ. نقيمه ذبيحةَ شكرٍ لله على ما أفاض من خيرٍ وبركات على مدارس الحكمة والجامعة وعلى أسرتها التربوية المتعاقبة، أهلًا وإدارة وأساتذة وطلّابًا. ونقدّمها ذبيحة استلهامٍ للروح القدس وللحكمة الإلهية، من أجل انطلاقة جديدة وفقًا لشعار الاحتفال: “140 سنة من الحكمة في خدمة لبنان والرسالة”.
4. تبتهج اليوم أسرةُ الحكمة بكلّ الوجوه الكريمة الحاضرة من قدامى وأصدقاء. وتزداد فرحًا بمشاركة نيافة الكردينال Dominique Mamberti وسيادةِ السفير البابوي المطران Gabriele Caccia، وبخاصّة لأنّهما يمثّلان حضور قداسة البابا فرنسيس لبركة هذا الاحتفال.
تعلمون أن نيافة الكردينال Mamberti هو في زيارة للبنان منذ مساء الجمعة الماضي تلبية لدعوة منّا، بصفته رئيسًا لمحكمة التوقيع الرسولي العليا، ولكونه خدم الديبلوماسية الفاتيكانية كمستشارٍ في السفارة البابوية في لبنان بين 1996 و1999، ورُقّيَ، في شهر شباط الماضي، إلى الرتبة الكردينالية، ولكونه زار لبنان في مناسبات أخرى في إطار مَهمّته كأمين سرّ حاضرة الفاتيكان للعلاقات مع الدول. وهو خبيرٌ في شؤون لبنان والشرق الأوسط.
وجّهتُ الدعوة يومها كرغبةٍ أعرَبَ عنها اللبنانيون أكثر من مرّة، أن يوفد قداسةُ البابا فرنسيس كردينالًا كتعبير عن اهتمامه، الذي لم يتأخّر يومًا، وعن متابعته، عن قرب، للأحداث في لبنان والشرق الأوسط، وصلاتِه من أجل السلام العادل والشامل، وعن مطالبته بالحلول الديبلوماسية والسياسية للأزمات الجارية بدلًا من الحرب وممارسةِ كلِّ أنواع العنف. فكان أن كلّفَ الأبُ الأقدس الكردينال Mamberti القيام بهذه المَهمّة. فالشكر لقداسته على هذا الاهتمام المحبّ الأبوي، ولنيافة الكردينال على حضوره وعمله وصلاته واتّصالاته، وهو يعلم أنّ له في قلوب اللبنانيّين محبةً خالصة.
5. مئةٌ وأربعون سنة من عمر صرح الحكمة، وهو اليوم مدارس وجامعة، تخرّجت منها أجيالٌ لبنانية لامعة من كلّ الطوائف المسيحية والإسلامية. إنّها ثمارُ صرح الحكمة الذي أنشأه المؤسِّس، المثلَّثُ الرحمةالمطران يوسف الدّبس، الذي أقامه الله راعيًا لأبرشية بيروت، فذهب وأعطى الثمار الوفيرة التي تنعم بها الأجيالُ حتى يومنا. علَّمَ وألَّفَ وكتَبَ وترجم. نذكر من نتاجه الفكريّ سِفرَه الكبير “التاريخُ الدنيويّ والدينيّ لسوريا” الذي صدرت منه تسعةُ أجزاءٍ ما بين 1893 و1907، ثمّ أصدرَ مُختصرًا في جزئَين بعنوان “الموجَز في تاريخ سوريا”. ونذكر كتابه الآخر “الجامعُ المفصّل في تاريخ الموارنة المؤصّل”، وهو كناية عن فصولٍ مختصّة بتاريخ الموارنة من سِفره المذكور.
وإذ كان همُّه الأكبر تنشئةَ الأجيال العلمية والوطنية، أسّسَ مدرسة الحكمة سنة 1875 وجامعةَ الحقوق؛ ثمّ مدارسَ أخرى. فغرس التربية في طلّابه وعمّمها في أبرشيّته وبناها وحدةً وطنيّة، اعتبرها الضامنَ الحقيقيَّ للوجود والبقاء، ومحطَّ الرجاء. وأكملَ خدمةَ الكلمة بما بنى من كنائسَ في المدينة وفي كلّ أرجاء أبرشية بيروت، وكان أوّلُها هذه الكاتدرائية الجميلة، التي أعاد ترميمها سيادةُ أخينا المطران بولس مطر بعد هدمها في الحرب اللبنانية المشؤومة، وكان سقفُها خطَّ تماس. فالكلمة التي نعلنها ونعلّمها، نحتفل بها أسراريًّا لتقديسنا، ونعيشها طريقَ هدايةٍ إلى الله، وتصبح، في خدمة التربية، ثقافةً وحضارةَ حياة.
6. أمّا الفضلُ في ثمارِ صرح الحكمة، فيعودُ إلى كلِّ أوليائها، رؤساءِ أساقفة بيروت إلى يومنا، ورؤسائها وهيئاتها الإدارية، وكوكبةِ المعلّمين المنتقين ومن بينهم الاختصاصيّون المعروفون في الفنون الجميلة والتصوير والموسيقى وعلم الرياضيات والخطوط.
لقد ضمّت الحكمةُ تحت سقفها طلّابًا من لبنان وسوريا ومصر، والعديد من أبناء الأُسر الشريفة والبيوتات الكبيرة من أمراءَ شهابيّين ولمعيّين وإرسلانيّين، ومن مشايخَ آل الخازن ودحداح وحبيش وتلحوق وحماده، فضلًا عن أعيان لبنان كملحمه وضاهر وكرم، وسواهم. كما ضمّت طلّاباً من مختلف الطوائف المسيحية والإسلامية. فوجدوا فيها خيرَ تربية وطنيّة على التعدّديّة والترابط والتكامل والإغناء المتبادِل واحترامِ الآخر المختلف.
7. أما الذين تخرّجوا من الحكمة وتلألؤا في سماء لبنان والمنطقة، فلا بدّ من أن نذكر من بينهم رجالَ كنيسةٍ كالبطريرك الكردينال بولس بطرس المعوشي، والخوري نعمة الله مبارك والخوري مارون غصن؛ ورجالَ سياسةٍ محنّكين، ورؤساءَ مجلس نيابيّ، ورؤساءَ محاكم، ووزراءَ ونوبًا، ومحامين متضلّعين، وأطباءَ ماهرين، وصحافيين ذائعي الشهرة، وأصحابَ صحف ومحرِّرين، ورجالَ أدبٍ وشعراءَ ملهَمين، وكتّابًا ذوي بلاغة. هذا فضلاً عن الذين لمعوا في الفنون والتجارة وسواها من حقول الإبداع والعطاء.
8. كم نودّ لو أن المدرسة السياسيّة تُخرّج مثل هؤلاء الذين خرّجهم صرحُ الحكمة: رجالَ سياسةٍ ودولة يدركون أن العمل السياسيَّ فنٌّ شريف يُمارَس عبرَ المؤسّسات الدستوريّة والعامّة في خدمة الإنسان والخيرِ العام. لبنان بحاجة إلى رجالِ سياسةٍ ودولة يضعون الوطن فوق كلّ اعتبار، فيُضحّون بمصالحهم الخاصّة وحساباتهم في سبيل إعلاء شأنه، وبناءِ دولةٍ مدنيّةٍ قادرة ومُنتجة يُعزَّز فيها الجيشُ ويُحترَم ويُكرَّم ويُشكَر ويُشجَّع مع سائرِ الأجهزة الأمنية التي تتفانى في حماية الأمن والسلام؛ رجالَ سياسةٍ ودولة يكون شغلُهم الشاغلُ تنظيمَ الحياةِ العامة بكل مقتضياتها اليومية، وإدارةَ شؤون الدولة ومؤسساتها بعيدًا عن الفساد والرشوة وهدرِ المال العام، ووضعِ المخطّطات في ميادينِ الاقتصاد والاجتماع والتشريع والثقافة، وإقامةَ أفضل علاقاتِ تعاونٍ وتبادل مع الدول، وتعزيزَ محبةِ الوطن وكرامته وتراثه وعاداته وتقاليده، التي تشكّل هوّيّتَه وثقافتَه.
لبنان بحاجةٍ إلى رجال سياسةٍ ودولة يحترمون الدستورَ والميثاقَ الوطني، ويأبَون، من أجل حماية كرامتِهم وبحكم مسؤوليّتِهم، التماديَ في عدم انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، بعد أربعةَ عشر شهرًا، وسنةً كاملة من فراغِ سدّة الرئاسة. واحدٌ فقط يُقسم اليمين على حماية الدستور وضمانةِ وحدة الشعب، هو رئيس الجمهوريّة. إنّ عدم انتخابه يعني استباحةَ الدستور وزعزعةَ الوحدة الداخلية، والإمعانَ في الانقسامات والخلافات.
9. لكنَّ رجاءنا بالله يبقى صامدًا، وإيمانَنا بالوطن كبيرًا، مع صمود شعبنا على المحنة. هذه الثلاثة هي، من دون أيّ شك، بابُ الفرج والخروج من أزمة الرئاسة وما يتفرّع عنها من أزمات.
وإنّنا في كلّ حال نرفع، بنعمة هذا اليوبيل المزدوج، نشيد المجد والتسبيح لله الواحد والثالوث، الآب والابن والروح القدس، لآن إلى الأبد، آمين.
*****
(*) عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي في كاتدرائية مار جرجس – بيروت – لمناسبة مرور 140 سنة على تأسيس صرح الحكمة، جامعة ومدرسة و50 سنة على كهنوت المطران بولس مطر، راعي الأبرشية وولي الحكمة.