د. عبد الإله بلقزيز
ينبغي لكلّ مشروع ثقافي نهضوي جديد أن يناسب شرطه التاريخي الموضوعي، فيترجم مطالبه وحاجاته ترجمةً أمينةً، بالقدر عينِه الذي ينبغي له أن يجيب عن تلك المطالب والحاجات الجوابَ الفكريّ المطابِق. ذلك وحده ما يبرّر جِدَّتَه أو القول بجدّته عند من يدّعونها ويدْعون إليها.
سيكون على خطاب النهضة، بهذا المعنى، ألّا يكرّر سابقَه الذي أنتجته ظروفُه في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وألّا يكون حاضرُهُ ومستقبلُه نسخةً أخرى باهتةً لماضيه، وإلّا حَكَم على نفسه بأن لا يكون مشروعاً تاريخيّاً.
كلُّ خطابٍ للنهضة اليوم يُقْفل على نفسه في النطاقات التي حدَّدها خطابُ النهضة الماضي، ويكتفي بابتعاث مضامينها وإحيائها، يحكم على نفسه بأن يكون خطاباً أصولياً، سلفياً، مسكوناً بسلفه الصالح، أي بنزعةٍ لا تاريخية، وبالتالي، لا نقدية. وحينها لا مبرِّر لوصفه خطاباً جديداً، بل لا مبرّر لحسبانه نهضوياً.
لا ندعو، هنا، إلى قطيعة نهائية في العلاقة بخطاب النهضة السابق، وإنما ندعو إلى بناء مسافة نقدية منه يُعاد، في إطارها، قراءةُ تراثه الحديث، وفهْم أسباب فراغاته أو بياضاته، فهماً تاريخياً وإيبيستيمولوجياً في الوقت عينه، ونقْد بعض مناحي النظر فيه إلى النهضة ومداخلها، وما عسى أن تكون أسباب فشله في الصيرورة خطاباً سائداً في الفكر العربي، أو ثقافةً جمْعية في المجتمع العربي. من هذه اللحظة النقدية يبدأ تاريخ أيّ خطاب نهضوي جديد، لا من مُدْخلين خاطئين سائديْن اليوم: المدخل التبجيلي الذي يبرّر لأصحابه الأخذ بفرضية الاستمرارية التاريخية بين ماضي الخطاب النهضوي وحاضره، والمدخل العَدَمي الذي يبرّر لأصحابه الأخذ بفرضية القطيعة. وهما مُدخلان يتضافران، على اختلاف بينهما في المنطلقات، في إنجاب النتيجة عينِها: النظر إلى خطاب النهضة (الماضي) نظرة لا تاريخية.
نستطيع، في نطاق هذه المسافة النقدية، أن نَلْمَح جملةً من أنماط التفكير النهضوي، أو قُل لدى النهضويين، تحتاج، اليوم، إلى نقدٍ يبرّره ما أفضت إليه من نتائج لم تكن لمصلحة فكرة النهضة. وينبغي التنبيه، في هذا المعرض، إلى أن نقدها نقداً موضوعياً يفترض عدم الانزلاق إلى مؤاخذة النهضويين على الأخذ بها كيقينيات، أو كفرضياتِ تفكيرٍ وعمل؛ ذلك أن مؤاخذةً من هذا القبيل سيكون من شأنها أن تتجاهل الشروط التاريخية الخاصة التي وُلِدت أنماطُ التفكير تلك في إطارها، وأن تتجاهل الأفق الفكري والمعرفي الذي كان متاحاً للنهضويين في ذلك الإبّان، وهي ستقود فعْلَ النقد إلى الصيرورة فعْل إسقاط لا تاريخي، تُحاكَم فيه أفكار الأمس بمعايير الحاضر؛ وهو ما لا يجوز من وجهة نظر تاريخ المعرفة، ومن وجهة نظر التاريخية الوقائعية. إن النقد، الذي نقصد إليه بهذه الدعوة، ينبغي أن يُصْرَفَ حصراً إلى تنبيهنا على مغبّة تكرار الأخطاء الموضوعية التي وقع فيها نهضويّو القرن التاسع عشر وأوائل العشرين في النظر إلى أهداف النهضة، وفي تمثّل الصلات بين تلك الأهداف، وفي الانغماس في نزعةٍ انتقائية زاد معدّلُها، على نحوٍ سلبي، منذ منتصف القرن العشرين حتى يوم الناس هذا.
سنطِلّ، سريعاً، على مسألتين فكريّتين في خطاب النهضة السابق، عبّر فيهما ذلك الخطاب عن نزعته الانتقائية في صورتين منها: في علاقته بمصادره الفكرية التي نهل منها موضوعات تفكيره، وفي اختزاله مسألة النهضة إلى بعدٍ واحدٍ من أبعادها (عند هذا النهضوي أو ذاك). سيكون من الضروري، هنا، التشديد على أن الجنوح لذلك الاختزال، لم يكن دائماً لأسباب تتعلّق بقصورٍ معرفي، عند مَن عبّروا عنه من النهضويين، وإنما كانت له في الشرط التاريخي- السياسي والاجتماعي- أسباب نزول.
في الانتقائية المعرفية
في معرض دراسته مسألة الحرّية في فكر الليبرالية العربية، لاحظ عبد الله العروي في كتابه ”مفهوم الحرّية“، أن أفكار الليبراليين العرب لم تكن تتمتّع، في هذه المسألة، بالاتساق المنطقي لأسباب مختلفة؛ فكانت لحظات الليبرالية الغربية الأربع(مرحلة التكوين؛ مرحلة الاكتمال؛ مرحلة الاستقلال؛ مرحلة التقوقع) تجتمع فيها اجتماعاً غيرَ منظومي ولا تاريخي، على ما بين تلك اللحظات من تضارب أو تعارُض. وهو عَزا السبب الرئيس في ذلك إلى عدم اكتراث الليبراليين العرب أُولاءِ بتماسك الفكرة الليبرالية تماسكاً نظرياً في وعيهم، لأنهم لم يكونوا معنيّين بها كمسألة فكرية، ملتمساً لهم العذر بالقول إن قضيّتهم كانت سياسية وعملية في المقام الأول، وإن هدفهم كان تبرير سياسة واقعية أكثر من تكوين نظرة فكرية متماسكة إلى مسألة الحرّية.
وبصرف النظر عمّا إذا كان تعليل العروي دقيقاً – وهو لا يخلو من الوجاهة- فإن الملاحظة دقيقة، ويمكن سحبُها على مجمل النتاج الفكري للنهضويين العرب، في الموضوعات الفكرية والاجتماعية والسياسية كافة التي تناولها ذلك النتاج؛ فسواءٌ تعلّق الأمر بمسألة الدولة الوطنية وما ارتبط بها من قضايا، مثل الدستور وتوزيع السُّلط والنظام التمثيلي(رفاعة رافع الطهطاوي)…، أم بمسألة الإصلاح الديني والمدخل إليها (نقد السلطة الدينية)، أو بالتربية والإصلاح التعليمي(محمد عبده)، أو بالتحرر الاجتماعي وتحرير المرأة…، كان النهضويون يلوذون بنصوص مفكّري أوروبا الأنواريين، حتى من دون التصريح بذلك والإشارة إليه في معظم الأحيان، باحثين فيها عمّا يشبع طِلْبَتهم. لكنهم لم يلتزموا أصولها ولا نظامها المعرفي، فكانوا يأخذون من ”مونتسكيو“ بعض أفكاره في نقد استبداد الدولة العثمانية، وفي القانون والدستور، ومن ”جان جاك روسو“ و”جون ستيوارت مِل“ بعض أفكارهما في الحرّية، ومن ”لوثر“ بعض نقده لرجال الدين…إلخ، دامجين بين ذلك كلّه من دون مراعاةٍ لمقتضيات التماسك، ولا للحاجة إلى التعامل مع مصادرهم الفكرية ككلّية لا تقبل التجزئة والاجتزاء. هكذا استسهلوا فعْلَ الانتقاء الذي بدا لهم مشروعاً تماماً، ويفي بالحاجة التنويرية أو التبشيرية.
ولقد كان من نتائج هذه النزعة الانتقائية أن غابت عن الوعي النهضوي منظومات الفكر الحديث، وتبدّت له نصوص الأنواريين وكأنّها مجرّد موارد للتزوُّد بإجابات جاهزة عن أسئلة يطرحها واقع انتقال العرب من العهد الكلاسيكي إلى عصر المدنية الحديثة، فكان يأخذ منها ما يراهُ مفيداً ويتجاهل ما يرتّب الأخذُ به نتائجَ عليه، لا يقْوى على تحمُّلها. وإذا كان يمكن التماس العذر له – كما فعل العروي- فلا يمكن تجاهُل الثمن الفادح الذي دفعه فكر النهضة لقاء انتقائيّته تلك؛ العجز عن إنتاج أثرٍ فكريّ ذي بال يمكن البناء عليه، والسقوط في نزعةٍ تبشيرية جهَّزت وعيَ المخاطَبين بقضيةٍ (التمدّن، النهضة، التقدّم…)، لكنّها لم تجهّزه بمعرفةٍ فكرية رصينة. ولعلّ ذلك ما يفسّر- في جملةِ أسباب وعوامل أخرى- لماذا أمكن تصفية التراث الفكري النهضوي بيُسْرٍ شديد، منذ منتصف عشرينيات القرن العشرين، وملاحقة بقاياه في فترة ما بين الحربين.
النهضة ذات البعد الواحد
مثلما اختُزِلت المنظومة الفكرية الأنوارية في خطاب النهضة إلى أفكار محدودة ردّدها النهضويون في نصوصهم، اختُزلت النهضة من منظومة أهداف كاملة ومترابطة إلى بعدٍ واحدٍ من أبعادها يختلف من فكر لآخر. لم يجانب علي أومليل (في كتابه ”الإصلاحية العربية والدولة الوطنية“) الصواب حين لاَحَظ أن المسألة السياسية مسألةٌ رئيسةٌ في خطاب الإصلاحية النهضوية العربية، وأن هذه عزت إلى السياسة أسباب التأخّر وأسباب النهوض في الوقت عينِه.
ولذلك طغت مسائل الدولة الوطنية والحرّية والدستور في نصوص النهضويين. ولكن الاختزال لم ينحصر في هذا البعد السياسي فحسب؛ فمثلما عَزَا الطهطاوي التأخّر إلى النظام السياسي التقليدي السلطاني، شأنه في ذلك شأن خير الدين التونسي وأحمد بن أبي الضياف، ومثلما عزاه جمال الدين الأفغاني إلى افتراق الأمّة ومداخلات الدول الاستعمارية، ومثلما حصره عبد الرحمن الكواكبي في هيمنة الاستبداد…، مدافعين عن أفق الدولة الوطنية ووحدة الأمّة والنظام الدستوري أفقاً وحيداً للخروج من التأخّر وحيازة أسباب النهضة والتمدّن، وُجِدَ من النهضويين مَن عزا التأخّر إلى أسباب تربوية ودينية (الجمود وإقفال باب الاجتهاد)، مثل محمد عبده ومحمد رشيد رضا، ومَن عزاهُ إلى أسباب اجتماعية، مثل حسين المرصفي وقاسم أمين والطاهر الحداد… إلخ. هكذا، إذن، نُظِر إلى النهضة، إمّا من بوّابة السياسة، أو من بوّابة المجتمع، أو من بوّابة الدين والفكر، أو من بوّابة التربية والتعليم، وليس من منظور اجتماع هذه الأبعاد منها كافة.
لم يُخطئ أيٌّ من أولئك النهضويين في تشخيص الداء (النظام السياسي التقليدي، الاستعمار، الاستبداد، الجمود والتقليد، تأخّر نظام العلاقات الاجتماعية والعلاقات بين الجنسين…)، ولا في تعيين الجواب عنه (الدولة الوطنية الحديثة، الوحدة والتحرّر، الدستور، الاجتهاد والإصلاح الديني، المساواة وتحرُّر المرأة…)، لكن موطن الخطأ ”كان“ في حسبان الواحد منها بديلاً من الثاني، وفي غياب لحظة فكرية تركيبية وجامعة إلى النهضة تتجاور فيها أهدافُها تجاوراً جدلياً وترابطياً، ولا تتقاطب على النحو الذي هي فيه (في خطاب النهضة). ولعلّ هذا كان واحداً من أسباب إخفاق مفهومٍ للنهضة ذات البعد الواحد، التي استمرّ مفعولُها – من أسفٍ شديد – حين جنح خطاب النهضة للتمأسُس السياسي والإيديولوجي (بدءاً من عشرينيات القرن العشرين)، فأصبح يُعبَّر عنه من خلال تيارات فكرية – سياسية متنوّعة: ليبرالية وإسلامية وقومية وماركسية، ومن خلال المزيد من الاختزال إلى بعدٍ واحد، أسَّس لميلاد ما سمّاه محمد أركون (في كتابه ”الفكر العربي“ La pensée arabe ) بإيديولوجيا المواجَهة (القتالية) Idéologie de combat.
****
(*) كاتب وباحث من المغرب.
(*) نشرة “أفق”.