ترأس بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للروم الارثوذكس يوحنا العاشر اليازجي، القداس الالهي في دير سيدة البلمند البطريركي، لمناسبة مرور عامين على اختطاف مطراني حلب بولس يازجي ويوحنا ابراهيم، يعاونه كل من المطارنة جورج خضر، اغناطيوس الحوشي، كوستا كيال، غريغوريوس الخوري، رئيس دير سيدة البلمند الارشمندريت يعقوب الخوري، رئيس معهد القديس يوحنا الدمشقي اللاهوتي الاب بورفيريوس جورجي، ولفيف من الكهنة والشمامسة. وخدمت جوقة المعهد القداس بقيادة جيلبير حنا.
حضر القداس نائب رئيس مجلس النواب فريد مكاري، وزير الدفاع الوطني السابق فايز غصن، النواب فادي كرم، نقولا غصن، نضال طعمة، غسان مخيبر، رياض رحال، الوزراء السابقون: رئيس جامعة البلمند الدكتور ايلي سالم، نقولا نحاس وابراهيم الضاهر، النائب السابق مروان ابو فاضل وشخصيات وحشد من المؤمنين. بعد الانجيل المقدس القى المطران خضر عظة من وحي القيامة.
اليازجي
وفي ختام القداس تلا البطريرك اليازجي بيانا جاء فيه: “بولس ويوحنا في محاكمة، وقفا مرة في بداية البشارة المسيحية، ويقفان مرة أخرى اليوم، في البقعة الجغرافية عينها، وإن اختلفت التسميات. إنها محاكمة قل نظيرها، ليس فقط في الشرق، بل في عالمنا المعاصر. ارتداداتها لم تصب الأرضيين فقط، بل اقحمت السماء أيضا، في نزال الغلبة فيه للديان العظيم، الذي له الحكم الأخير في هذه القضية، قضية الإنسان الحق وقضية الإله الحق”.
لربما هذه المحاكمة غير متكافئة، فأغلب الظن أن الموقوفين لا يسعهما المرافعة في قضيتهما. ولكن هوذا خطابهما البين، وقد سطراه بروحيهما وحياتهما وشهادتهما المستمرة دون انقطاع، يصدح ويتردد في برية هذا العالم: يا إخوة الكلمة، أنتم أبناءنا في حلب، زرعنا بينكم وفيكم بذار كلمة الحق وكلمة الشهادة وكلمة الخدمة. هوذا الزرع ينمو، نراه فيكم ونفتخر بثماره. نعجب لصمودكم الذي يعزز صمودنا. نبهت لثباتكم الذي يؤازر ثباتنا. نجل صبركم الذي يكافئ صبرنا. كيف لا، وأنتم إكليل “مجدنا” و”افتخارنا” في محاكمة البشارة.
يا إخوة الإيمان، نمتحن بما آمنا به وبشرنا به وخدمناه باليد والقلب والضمير، أننا نعيش اليوم على الأرض لنحيا بعدها في السماء، وأن الإنسان يحق له أن يؤمن بالإله الحق ويخدم بهذا الإيمان “قريبه كنفسه”. إيماننا بالإنسان الحق يدفعنا إلى خدمته أينما حللنا، ولا زلنا حيث نحن اليوم مقيمون. لن نحيد عن هذا العزم قيد أنملة وهو يستحق منا كل تضحية دفاعا عن كرامة هذا الإنسان بتقزيمه وتشييئه في سوق الإنسانية المعاصر الذي يعرضه سلعة في مضاربات أثيمة. بهذا انكسرت شوكة التقزيم الرخيصة في محاكمة الكرامة.
يا إخوة الرجاء، لا يخف عليكم أنه إنما نحاكم على “رجاء قيامة الأموات. صرخها بولس مرة، وها نحن نقولها بالفم الملآن: يريدون أن يفتكوا بالآتي على حساب الآني، وهم لا يعلمون أن رب السماء والأرض إنما خلق هذه وتلك لنقطع المسافة التي تفصل بينهما بروح الإيمان ونبلغ إليه بما أوتينا من رجاء بتحقيق وعده لنا. إن هذه الحياة لفانية وأما تلك فباقية، ونحن نرنو بكل جوارحنا أن تبقوا على هذا الرجاء أمام الموت الرابض إزاء أجسادكم وأرواحكم ليهلكها. إلا أن رجاءنا بقيامة المسيح قد كسر شوكة الموت في محاكمة الثبات.
يا إخوة المحبة، لا شك أن انتصابنا في محاكمة كهذه لا يستقيم إلا إذا انبرى لها المرء بحقيقة هويته وإيمانه. لذا يعز علينا أن نخون محبة المسيح لنا، ويعز علينا أيضا أن تظلم القلوب والضمائر إلى درجة يسهل معها انتهاج درب النزوات وكل أشكال الأنانية البغيضة. نراكم يا إخوة فتثلج قلوبنا بمرأى محبتكم وسط ركام إنسانية انحدرت بها وصوليتها إلى أبواب الجحيم بكل ما للكلمة من معنى. بالمحبة تغلبون كل شيء، وبها تجتازون كل أشكال الموت إلى ملكوت إله المحبة. وسط الدمار والموت والعبث، يعلو بناء محبتكم كحكم مبرم في محاكمة الضمير.
يا إخوة الدم، أنتم الذين حكم أو سيحكم عليهم، منكم من أخذ حكم ربه شهيدا أو معترفا، ومنكم من يعيش شهادة رجاء منقطع النظير، في صمت أو تهويل، في هوان أو ضيق. إلا أنكم بجلادتكم قد أفحمتم المراهنين على خيانتكم أو ارتدادكم أو انخذالكم أمام ضعف أو ترغيب أو ترهيب. دمكم، سواء النابض أو المسفوك، بلسم لعوائلكم وإخوتكم، وختم انتصار في محاكمة الخلود.
يا إخوة الحق، خسئ كل من أعلن نصرته على حق في الظاهر، هو باطل في الخفاء. بعيون القلب نراهم، ونسبر ما يظهر منهم في العلن، في كلامهم (الإعلام) وأفعالهم، كما وما يضمرون في السر، في ضمائرهم. لن يعلو حق على حق الله وحق الإنسان مهما كثرت الآثام. هذه هي صرخة يوحنا فينا جميعا: “من لا يحب أخاه يبق في الموت. كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس”. لن نساوم على الإنسان، ولن نذعن لغير الحق. نقولها معكم، في صلب معاناتكم، بصمودكم وكفاحكم وشجاعتكم. بهذا فضحتم ضلالهم المبين في محاكمة الحقيقة.
يا إخوة الوطن، جرحكم جرحنا، وعذابكم عذابنا، وألمكم ألمنا، ودموعكم دموعنا، وحياتكم حياتنا. أيادينا مفتوحة لكم وقلوبنا تتسع لكم. هيا بنا نتصافح ونتخاطب ونتسالم ونتصالح ونتفاهم ونتعاون ونتكامل. الحل لا يأتي بالعنف على أشكاله، بل بالحوار على أنواعه. الخوف أن يفنى الإنسان وتندثر حضارته متى طال زمن المحاكمة. معكم نرفع راية الشراكة في محاكمة الوحدة.
يا إخوة المصير، شرقنا، نحن رمال صحاريه، تراب سهوله، صخور جباله، مياه أنهاره، وجذور أشجاره. إن زالت، لا يبق للحياة وجود أو معنى. بات شرقنا حلبة مفتوحة لكل سوء. رهان هذه المحاكمة هو هدم الحياة في مهدها، تحطيم توهجها في حضاراتها، إزالة معالمها في مكوناتها، إخفاء بصماتها في آثارها، تهجير إنسانها في تاريخها، ومسخ الله في أديانها. مدى غلبتنا في الحق على الأرض نستمده من السماء، ولكن ليس باستدعاء الإله لتسخيره، كرمى لنزوات، السماء منها براء، نحن واعون أننا مكرسون للبقاء في هذا الشرق الذي ننتمي إليه ونحن منه، فيه نشهد لإيماننا، ومنه تنطلق شهادتنا، وعليه نبني صرح إنسانيتنا. لم يكن الإله الواحد بالنسبة لنا موضوع خلاف ولا علة اقتتال ولا سبب انقسام. تعلمنا أن نخاطبه أبانا لذا فالجميع بالنسبة لنا إخوة. يمكننا أن نخاطب الجميع بالحق والمحبة، وأن نضع نفوسنا لأجلهم، ويمكننا أيضا أن نطالبهم ونسائلهم، فحقنا عليهم أن مصيرنا واحد، نتعهده معا أو نخسره معا، لا يمكن أن يتحول المؤمن، أيا كان، وحتى غير المؤمن، في هذا الشرق أو خارجه، إلى شاهد زور بتعاميه عما يجري. معكم نرفع راية الأخوة وبها نقطع دابر شاهدي الزور في محاكمة الإنسان والدين.
يا إخوة الإنسانية، باتت قضيتنا أبعد من جماعة، وأكبر من وطن، وأوسع من منطقة. محكنا هو محك الإنسانية في عالمنا المعاصر، بحكم تشويهها، خدمة لمصالح ومآرب متنوعة. نحن شاكرون لكثيرين ممن يعون هذه المخاطر ويعملون على احتوائها ومعالجتها ودرئها. لن نتحول عنوانا لقضية يطالب بحلها وفك أحجيتها، فلسنا كذلك. فأنتم قضيتنا، نحن ساهرون من مكان إقامتنا على ضمائر الذين يريدون الاستمرار بالفتك بقضيتنا: قضية الإنسان الحق وقضية الإله الحق. ألا يعقل أن تنقلب الأدوار، فيصير المحكوم عليه قاضيا ولو كان في زنزانة، والقاضي محكوما عليه وإن كان على منبر؟
يا أخانا الأكمل، من تجسد لأجلنا وحمل طينتنا واحتمل الحكم الجائر وصعد على الصليب وهبط إلى الجحيم ثم ارتفع إلى السماء، لقد علمتنا أننا “إخوتك”، عن غير استحقاق، وأن “أباك أبانا وإلهك إلهنا”. بلغ سلامنا وفرحنا بك شأنا نعجز عن بلوغ ارتفاعه وعمقه في حياتنا الروحية، وقياس عرضه وطوله في حياتنا المادية، فهو فرح وسلام بحجم المعطي: سلامي أعطيكم، فرحي أعطيكم، فلا ينزعهما أحد منكم. لقد حكمت أن تعطينا الفرح والسلام الخاصين بك، فما أعظم انتصارنا وما أكرم حكمك.
هذه هي درجات الأخوة العشر وسفر مرافعتنا كاملة، وقدأخذناه من يمين الجالس على العرش. هذه هي كامل بشارتنا إليكم، فاصغوا إليها، فتعزيتنا كبيرة بكم.
كلنا نعي أن المحاكمة لم تنته فصولا، إذ لنا فيها جولات إلى ما يشاء القدوس. “فماذا نقول؟ ألعل عند الله ظلما؟ حاشا، فماذا؟ إن كان الله، وهو يريد أن يظهر غضبه ويبين قوته، احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيأة للهلاك، ولكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد، هذا هو انتصار يمين العلي، بكم وبنا، أما ملتقانا المستديم فهو في الصلاة من أجل الكل، نرفعها معكم إلى الذي له المجد والقدرة والسجود والملك إلى الأبد، آمين”.
لقاء مع الإعلاميين
وكان لقاء للبطريرك اليازجي مع الاعلاميين حول خطف المطرانين، اشار فيه الى “قيام القداديس والصلوات في جميع كنائس الكرسي الانطاكي، في الوطن وبلاد الانتشار، بتنسيق وبتوجيه من البطريركيتين الارثوذكسيتين السريانية والرومية على نية عودة المطرانين المخطوفين منذ سنتين”، مؤكدا أن “هذه الصلاة ليست تأسيسا لذكرى سنوية لاختطاف المطرانين، انما هي صلاة يومية وتذكير يومي بعودة المطرانين ولكي يتذكر العالم كله محليا، عالميا ودوليا بهذه القضية التي يتعامى عنها ويتناساها. نحن رفعنا الصلاة من اجل كل العالم، من اجل الاستقرار والهناء في كل العالم وهذه هي صلاتنا”.
أضاف: “نحن رسل المحبة رسل الشهادة للحق وللنور ولسعادة وسلام الانسان كائنا من كان هذا الانسان. لهذا ندعو دوما الى حل المشاكل بالحوار، بملاقاة الاخر، بالحل السلمي وليس بالعنف او اية وسيلة اخرى. صلواتنا الى كل المعنيين في بلادنا وفي دول صاحبة القرار ان يدفعوا دوما الى ايجاد حل سلمي لما يجري في بلادنا. اذ اننا لا ننسى الفراغ الدستوري، رئاسة الجمهورية في لبنان، لا ننسى ما يجري في سوريا، وما جرى في العراق، ولا ننسى فلسطين الجريحة، وما جرى ويجري في كل انحاء المنطقة في مصر واليمن وكل هذه الجراح التي يعاني منها انسان هذه الديار”.
تابع: “نرفع الصلاة لكي يعود السلام والطمأنينة الى قلوب الجميع، صلواتنا من هذا الدير الشريف، دير العذراء سيدة البلمند، ان تبلسم العذراء مريم قلب كل حزين، ان تبلسم قلب كل ام ثكلى، كل قلب جريح، ان تمسح عن كل وجه، كل دمعة ليمجد الله في حياتنا، ونحن في زمن القيامة في زمن الفصح مهما كثرت الصعاب ومهما اظلمت الدنيا نبقى ابناء الموت ابناء القيامة ونردد انه بعد كل صليب هناك القيامة”.
وفي رد حول ما يشاع عن فدية ومفاوضات، اجاب اليازجي: “نحن على رجاء ان المطرانين هما على قيد الحياة ولكن للاسف كل العالم صامت لا يتكلم عن هذا الموضوع ولم يعطنا احد اي دليل مادي او حسي عنهما. لذلك نناشد المجتمع الدولي باسره، والمنظمات الدولية ، بما قلته، في زيارتي الاخيرة لمقر الامم المتحدة في اميركا، عن حقوق الانسان وكرامة الانسان للامين العام ومجلس الامن، وهناك مطرانان مخطوفان ولا احد يمدنا باي معلومة”.
وجدد التأكيد ان “لا خبر جديدا في هذا الملف، الجرائد تذكر الكثير انما حتى تاريخه لا جديد. لذلك اكرر ان هناك صمتا دوليا معيبا، ومشينا بحق كرامة اي انسان. حاولنا التفاوض مع جميع من يمكنهم المساعدة في هذا الموضوع من الشرق الى الغرب انما للاسف هناك صمت مطبق. وكل من يمكنه المساعدة في هذه القضية نرحب به”.
وختم: “نصلي من اجل جميع الناس، وربما يمنحنا الله القوة مسلمين ومسيحيين ان ندرك ان ربنا الواحد الاحد هو الهادي وهو النور وهو نور السموات والارض، وهو ما نقوله كلنا في جميع كتبنا المقدسة، فالرب يمنحنا جميعا نحن البشر ان نفتح قلوبنا لنتقبل رحمة الرب ويحل السلام في قلوبنا ونكون اداة للشهادة والسلام في كل العالم”.
ثم استقبل البطريرك والمطارنة المهنئين بعيد الفصح في قاعة الدير الاثرية