ليست الثّقافة خبرا في شريط الأنباء أو صفحة أخيرة في جريدة أو نقطة أخيرة في برامج الأحزاب. يجب أن لا تكون كذلك. ليست «بنية فوقيّة». فكون الإنسان ناطقا لاهيا ومائتا، وكونه ذا يد وفكر وقبر أمور أساسيّة
في منزلة الإنسان ويوميّه، منها تأتي الثّقافة، وهي التي تجعل منزلة الإنسان محتملة رغم تراجيديّتها، وتجعل التّعايش ممكنا رغم أنّ الإنسان ذئب مع أخيه الإنسان، أو أخته المرأة. الثّقافة هي التي تجعلنا نتخاطب بدل أن نتقاتل، وهي التي تجعل الرّجل يكتب القصيدة بدل أن ينقضّ على الأنثى، وهي التي تجعلنا نأنس بالعيش معا، ولا نكتفي بالتّعايش. طفل صغير في حيّ السّيّدة يقبل على نادي سينما للأطفال، قيل له : لماذا تأتي إلى النّادي؟ أجاب : حتّى لا أكون شرّيرا. ألحّوا عليه بالسّؤال فقال : كنت شرّيرا فلم أعد شريّرا.
ثانويّة الثّقافة وهم سلطويّ يفسد الثّقافة والسّياسة
والبرنامج الجوهريّ الذي اقترحناه ونقترحه هو : كيف نتجنّب هذا الوهم، وكيف نعيد الثّقافة إلى الحياة، ونخرجها من الأماكن المغلقة أو المرفّهة إلى كلّ الأحياء المفتقرة إلى ما يساعد البشر على التّخلّص من دوافع العداء والشّره، إلى المسارح ودور السّينما والمكتبات. إعادة الثقافة إلى الحياة يعني أن تصبح الثّقافة قلبا نابضا داخل كلّ حيّ. يجب أن يصبح جزء منها، أو أن تصبح في جزء منها «حومانيّة»، أي في قلب كلّ حومة.
ولا حدّ للثّقافة لأنّ الدّيمقراطيّة تربية وثقافة وتربية على قيم وليست مجموعة من الإجراءات التي تهدف إلى التّداول على السّلطة أو الفصل بين السّلط. إنّها مجموعة من القيم أساسها الحرّية والمساواة، إضافة إلى النّقد والنّقد الذّاتيّ.
ولا حدّ للإبداع. فالإبداع يجب أن لا يكون حكرا على الكتابة والفنون. يجب أن نبدع في الاقتصاد والاستثمار، ويجب أن لا يكون الإبداع في الاستثمار حكرا على بعض الأفراد أو العائلات أو اللّوبيات. يجب أن نستثمر في القدرة على إنتاج الثّروة لا في الحقد الطّبقيّ أو الجهويّ. بدل تكريس ثقافة مطالبة الدّولة بالشّغل، يجب أن نحرّر المبادرة، ونخلق ثقافة المبادرة لدى الشّباب بدل ثقافة الاتّكال على الأسرة والدّولة.
ولا حدّ لحرّيّة الإبداع. لا يمكن أن نبدع عندما نكرّر. ولا يمكن أن نبدع عندما نحبّ ماضينا أكثر ممّا نحب مستقبلنا. ولا يمكن أن نبدع عندما نخاف من المجهول والجديد. ولا يوجد إبداع دون كسر للرتابة وجرأة على العادة وتحرّر من آليّات الدّفاع. إنّه الانطلاق بديلا عن الخوف والرّهاب، وآليّات الدّفاع المكبّلة.
ولا حدّ لتوق المجتمع المدنيّ إلى التّحرّر، وإلى الإبداع، بمعنى عدم تكرار القديم، وعدم عودة النّظام القديم
أزهر المجتمع المدنيّ وأثمر دستورا، وأثمر بيانات ومواثيق وعهودا حاول بها نسج العقد الاجتماعي الجديد : «عهد تونس للحقوق والحريات»، و»اعلان مبادئ التعامل السلمي بين الأحزاب السياسية»، و»الميثاق الوطنيّ لمناهضة العنف والإرهاب»، و»عهد التربية ومدرسة المواطنة»، و«الميثاق الثقافيّ».
أريد أن أذكر هذه الأدوات التي أنتجها المجتمع المدنيّ ليحمي بها ثورته. أريد أن أمدحها،وأدعو إلى العناية بها وعدم تغييبها في غمرة المشاكسات السّياسيويّة.
لا حدّ للعدالة الانتقاليّة
فكلّ الإجراءت المتأخرة والبائسة التي تمّ القيام بها بعد الثّورة تحت يافطة «العدالة الانتقاليّة» تترك جانبا أهمّ ما في هذه العدالة حسب رأيي، وهو العمل على الذّاكرة، وإنتاج ثقافة جديدة تنتصف إلى مظلومي العهود السّابقة دون أن تكون ثقافة انتقام وأخذ بالثّأر. يجب أن تتحوّل العدالة الانتقاليّة إلى برنامج ثقافيّ. فماذا فعلنا وما سنفعل بغير الذّكور الأقوياء، سليمي الأجساد؟ ماذا فعلنا وسنفعل بالنّساء والمختلفين في الدّين واللّون واللّغة والاتّجاه الجنسيّ؟ لماذا لم ينصّ الدّستور عن منع العنصريّة ضدّ السّود؟ كيف نعيد كتابة التّاريخ من وجهة نظر أخرى غير وجهة نظر الذّكور الأقوياء من
ذوي البشرة البيضاء؟ ماذا فعلنا ببو سعديّة الباحث عن ابنته المختطفة؟ سعديّة هي نحن. وليهنأ أبوسعديّة لأنّنا وجدناه عندما بدأنا تحرير ذاكرتنا من العنصريّة واحتقار الآخرين.
ما نطلبه من حركة نداء تونس هو أن لا تكون راعية للإبداع والثّقافة فقط، بل أن تكون قوّة تحرير للإبداع في كلّ المجالات. وبما أنّ ثقافة المناشدة انتهت، بفضل الإبداع الثّوريّ، فإنّنا نساند مرشّح هذه الحركة، الأستاذ الباجي قايد السّبسيّ، ونحن نطلب من حركته أن تتحرّر هي نفسها من طاحونة التّكرار، وأن لا تعيد إنتاج الأفضليّات السّلطويّة التي منها وهم ثانويّة الثقافة.
******
(*) جريدة المغرب