زياد كاج.. عالم آفل وحضارة في طريق الزوال

جورج جحا (رويترز)

من خلال عمله الذي أسماه “راس بيروت .. صندوق في البحر نار على راس تلة” وأعطاه اسم guilaf ras beirutرواية… يرسم الروائي والشاعر اللبناني زياد كاج بالذكريات والواقع الآخذ بالاختفاء، عالماً فريداً رائعاً كان لمنطقة من العاصمة اللبنانية هي “راس بيروت”.

ويصور زياد كاج هذا العالم المعروف عند كثير من الناس في العالم العربي وحتى في العالم بلغة شعرية من الواقع، وبإحساس مرهف يلفه الحنين إلى ما كان مكاناً دافئاً رائعاً ابتلعه الزمن أو كاد، فلم تبق لدى الكاتب وقارىء كتابه سوى الحسرة على أيام حلوة أشبه بالحلم المولي.

وفي قراءة عمل كاج هذا نشعر بل نرى عالماً تأكله حضارة وافدة معقدة لما أسماه “تموز” -أي الشاعر والكاتب اللبناني الراحل فؤاد سليمان- “غابة الحديد والأسمنت” قاصداً بها بيروت التي أكلتها “الحضارة الخراسانية” فلا حديقة ولا شجرة ولا زهرة. يشكل الكتاب تأريخاً إنسانياً واجتماعياً مؤثراً لمنطقة بيروتية فريدة.

يذكرنا المؤلف بعمل رائع للدكتور أنيس فريحة هو “حضارة في طريق الزوال” تحدث فيه عن عالم متحول. وقد ورد الكتاب في 239 صفحة متوسطة القطع وصدر عن “دار نلسن” في السويد وبيروت.

ولد زياد كاج في راس بيروت سنة 1964 ودرس الإعلام والأدب الإنكليزي في الجامعة اللبنانية والجامعة العربية. وهو يعمل في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت. له ثلاث روايات قبل هذه ومجموعتان شعريتان.

كتب الناقد سليمان بختي على دفة الكتاب معرفا به فقال: “رواية راس بيروت تسجل برشاقة السرد المكان الهارب من التحول المغير للناس والأحوال. يرى الراوي نفسه قريبا وغريبا عن عالم يمعن في غيابه من دون التخلي عن الوفاء للماضي والأمل بالمستقبل. ينقل المشاهد واللوحات الواقعية من حياة الناس الذين عاشوا معاً كل جوانب الحياة وتحدياتها … رواية ترصد التحولات الاجتماعية والثقافية التي شهدتها راس بيروت في تاريخها الحديث”.

يقول الكاتب في الفصل الأول: “في راس بيروت لا حاجة إلى الأقنعة ولا أحد يسألك عن هويتك الطائفية (على الأقل قبل أن أغادرها حزينا مكسورا في بداية التسعينات). صحيح أن الناس قد تغيرت وأن الذين جايلتهم بالأمس كانوا هنا واليوم قد رحلوا، وأن المقيمين اليوم في راس بيروت لا يعرفونني، وأن معظم الناس باتوا متشاوفين وماديين فوق العادة، وأن القلة القليلة المتبقية من الطبقة الوسطى وما دون لا تزال متمسكة ببيوتها وشققها القديمة تمسك الولد بفستان أمه في يوم المدرسة الأول .. لكن عزائي الوحيد أنني أعرف المنطقة جيدا. أعرفها ماضيا وروحا يضجان في مخيلتي”.

يضيف متحدثا عن أماكن حقيقية في المنطقة وإن بدت لنا كأنها آتية من حلم فيقول: “في راس بيروت أمكنة وشوارع بيني وبينها ألفة وصداقة وود: شارع مدام كوري الذي تيمزه شجرة الصنوبر المعمرة. وحده خالد السنكري الشلمصطي والشيطان ابن جارنا أبو بشير الحلبي كان بإمكانه تسلق أغصانها العالية مثل السعدان … شجرة الصنوبر تعاند الغزو العمراني للمنطقة يجاورها الآن موقف للسيارات ويزنرها حائط حجري كأنه جنزير مديني يمنعها من الحركة والنمو”.

يتحدث عن أماكن في الذاكرة وأخرى لا تزال قائمة: كورنيش البحر حتى عين المريسة، مروراً بمسبح الجامعة الأمريكية وعاموده اللافت .. ومقهى الروضة وشاطىء الرملة البيضاء وثانوية الروضة و”أوتيل الدبلوماسية.. أوتيل بريستول.. وشاطىء المنارة قبل أن تغزوه مقاهي النرجيلة”.

وفي فصل آخر يتحدث عن الأجواء العلمانية في راس بيروت ويخص بالذكر الفنان الرائع زياد الرحباني. إلا أنه هنا يذكرنا بالمثل القائل “غلطة الشاطر بألف غلطة” وغلطته هنا تكاد تكون بمليون. قال زياد كاج: “زياد الرحباني هو الأب الروحي للعلمانيين في هذا البلد.”

وكان زياد الرحباني قد لجأ إلى راس بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية وقام بأنشطته منها. والواقع أن تاريخ بيروت العلماني يمتد إلى عقود سبقت ولادة زياد الرحباني. مناخها منذ القدم مناخ علماني وسكانها متعددو الألوان الفكرية والإيمانية كما أنها كانت مسرحا لأفكار وأحزاب وحركات علمانية رائدة في لبنان والمنطقة.

رواية زياد كاج هذه تشكل قراءة نادرة دافئة ممتعة وحزينة يلفها عالم من النوستالجيا والحنين إلى فردوس مفقود.

اترك رد