الأديب مولود بن زادي
“كان يوما مشرقاً جميلا من أيام شهر تشرين الأول / أكتوبر خرجت فيه برفقة أسرتي لزيارة حديقة الحيوانات في ‘ريجنتس بارك’ بقلب لندن. آذنت الشمس بالمغيب عندما غادرنا الحديقة يغمرنا الارتياح والحبور، وسرعان ما حدث ما أثّر فينا وعكّر صفو مزاجنا.. فبينما كنا نقترب من محطة نفق ‘بيكر ستريت’ في طريق العودة لمحنا أعدادا غفيرة من أنصار الفريق الإنجليزي كانوا متوجّهين إلى ملعب ‘ويمبلي’ لمشاهدة مباراة انجلترا. لم يكد يشاهد الأنصار بعض النساء في الزي الإسلامي التقليدي حتى راحوا يهتفون: “نحن نكره المسلمين!”
لم يكن هذا حادثا عابرا معزولا بأيّ حال من الأحوال وإنما من مظاهر ما بات يُعرف هنا في المملكة المتحدة باسم” ‘الإسلاموفوبيا’ أو بعبارة أخرى المشاعر المعادية للإسلام.
فقد جاء في دراسة أجرتها السنة الماضية “جامعة تيسايد” أنّ المسلمين في بريطانيا يتعرّضون لاعتداءات تصل إلى معدل حالتين يومياً، وأنّ أكثر من نصف حالات الاعتداء تستهدف النساء لارتدائهن الزي الإسلامي التقليدي وهو ما كان وراء مقتل الطالبة السعودية ‘ناهد المانع’ طعناً – فقد تلقت الضحية 16 طعنة – في منطقة ‘ايسيكس’ شرق لندن في شهر حزيران / يونيو 2014، حسب المحققين.
وحسب دراسة نشرتها صحيفة ‘الدايلي ميل” الانجليزية العام الماضي فقد تعرّض 700 مسجد أو مركز إسلامي للاعتداء منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر وهو ما يناهز نصف عدد المساجد في بريطانيا.
يضاف إلى ذلك ما يشنّه المتطرّفون من تهديد وترهيب في مواقع التواصل الاجتماعي، وغير ذلك من أساليب المضايقة والعنصرية.
تاريخياً، تضرب الإسلاموفوبيا بجذورها في أعماق الماضي، فنراها تمتدّ إلى العقد الأخير من القرن المنصرم، فتنطلق مع نهاية الحرب الباردة بين الكتلة الغربية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة والكتلة الشرقية الاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفياتي، وهو تزامن جعل بعض المحلّلين يرجّح أنّ يكون هذا الوضع قد نشأ ليسدّ الفراغ الذي تركه انتهاء الحرب الباردة وأنّه لا بدّ منه لبسط الهيمنة الإمريكية وخدمة المصالح الغربية. ومهما كان، فقد ازدادت الطين بلّة وزاد الأمر سوء مع مطلع القرن الحالي لا سيما بعد أحداث التاسع من شهر أيلول/ سبتمبر 2001، وتفجيرات نفق لندن 7 تموز / يوليو 2005، ومقتل الجندي البريطاني ‘لي ريجبي’ في شرق مدينة لندن 22 أيار / مايو 2013 في حادث وصفه رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ب’هجوم على بريطانيا وخيانة للإسلام’.
وجغرافياً، لا يقتصر الأمر على الجزر البريطانية، فقد استشرى وباء الإسلاموفوبيا في كيان الأمم الغربية ونذكر منها:
-السويد: في يوم 1 كانون الثاني / يناير 2015، الهجوم الثالث على التوالي خلال أسبوع واحد بالقنابل الحارقة يستهدف مسجدا في مدينة ‘أوبسالا’ وهي رابع أكبر مدينة في السويد.
-جمهورية التشيك: في يوم 3 كانون الثاني / يناير 2015، دعا زعيم المعارضة لجمهورية التشيك المواطنين للسير بالخنازير بالقرب من المساجد لمضايقة المسلمين.
-ألمانيا: مظاهرات معادية للإسلام تغذيها أفكار اليمين المتطرف تزداد انتشارا في أرجاء ألمانيا مع اعتداءات متكررة على المساجد ومن ذلك قيام متطرّفين بالكتابة المعادية للإسلام على جدران مسجد في مدينة ‘دورماجن’ في شمال غرب ألمانيا…
ليس من شك في أن بعض أفراد جالياتنا يتحمّل شيئاً من المسؤولية على هذا الوضع الشنيع لمشاركته في أعمال إجرامية أو تأييده لها أو تعاطفه مع منفذّيها، وهي أعمال دنيئة لا تمتّ للإسلام بصلة، لكن جزء من المسؤولية يقع حتما على وسائل الإعلام التي عادة ما تقوم بتضخيم الأحداث والمبالغة في وصفها وإقرانها مع الإسلام والمسلمين، ويقع جزء آخر من المسؤولية قطعا على المواطن الغربي الذي رغم ما بلغه من مستوى في العلوم والمعارف والثقافة لا يكاد أحيانا يرى فرقاً بين الإرهاب والإسلام وإن أذنب أحدنا فكأنّما أذنب جميعنا، فإن اغتاظ عاقبنا جميعاً!
إنّ انتشار المشاعر المعادية للإسلام والمسلمين سيعرقل حتماً اندماج الجاليات العربية والمسلمة في المجتمعات الغربية ويحول دون مدّ الجسور بين الثقافات وتعزيز أواصر التعاون بين أفرادها بما يخدم مصالح هذه المجتمعات ويضمن الأمن والسلام والاستقرار في العالم.
لا مبرّر على الإطلاق لمثل هذه الأحداث التي يتعرّض لها أفراد جالياتنا في ألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول إن كان جلّ أفراد الجاليات الإسلامية قد عبّر عن رفضه العنف واحترامه قوانين الدول التي يقيم فيها كما يثبت أحدث التقارير.
فمن المؤسف حقا أنه في الوقت الذي يعبّر فيه 95 بالمائة من المسلمين البريطانيين عن ولائهم لبريطانيا، يعبّر 1 من 8 من مواطني ألمانيا عن تأييده للمظاهرات المعادية للإسلام واستعداده المشاركة فيها، وهو ما يُعتبر تناقضا صارخاً في هذه المسألة!
وإذا كانت الحرب الباردة الأولى قد انتهت بخضوع الكتلة الشرقية للكتلة الغربية وتخليّها عن إيديولوجيتها الشيوعية التي صنعها رجالها، فما هو سبيل إنهاء الحرب الباردة الثانية هذه التي يعيشها العالم؟ ولنَكُنْ واقعيين في إجابتنا، فالوضع هنا مختلف إذ أنّ الأمر لا يتعلّق بمجرّد إيديولوجية سياسية يمكن التنازل عنها واتباع غيرها وإنما بديانة في حجم الإسلام يدين بها ملايير البشر في العالم ولها أساس متين غير قابل للمساومة يتمثّل في القرآن الكريم.
حلّ هذه المسائل ليس بالشيء العسير إن تعاملنا معها بعقل وحكمة وتفهّم. فعلى أفراد جالياتنا بذل المزيد من الجهود لتحسين صورة المواطن العربي والمسلم في هذه المجتمعات باحترام القوانين واحترام الثقافات الأخرى وقبول التعايش مع الأجناس والديانات الأخرى وتربية الأطفال على هذه المبادئ، حتى لا نحكم على أنفسنا بالعيش في عزلة في هذه الدول.
وعلى الإعلام الغربي التوقّف عن تشويه صورة المسلم والحطّ من قيمته فلا دين في الدنيا في عصمة من التشدّد، ولابدّ أن يدرك المواطن الغربي أنّ جالياتنا بريئة من الجرائم التي قد يرتكبها بعض أفرادها، فهؤلاء لا يمثّلون إلا أنفسهم وآخر سبر آراء لا يدع مجالا للشكّ، فأكثر من 90 بالمائة من المسلمين هنا أكّدوا ولاءهم لبريطانيا واحترامهم قوانينها وهذا دليل على حسن النوايا.
وفي الأخير أقول لابدّ أن نؤمن جميعا بمبادئ الإنسانية وأن نقبل التنوع الثقافي وأن نحترم كل الأجناس والألوان والمعتقدات وأن نؤمن بمبدأ التعايش وبحق الجميع في العيش في أمن وسلام وعزة وكرامة”.
*****
(*) “صدى الشرق” لندن.