نظمت الحركة الثقافية – أنطلياس، ندوة حول كتابي الدكتور عبدو قاعي الجديدين “في ما بعد الدين (الأديان) في سببية حلول الرؤيا”، “في سلطة الكلمات، أو في تاريخ تواريخنا وأحداثنا”، شارك فيها الدكتوران أمل ديبو وإيلي يشوعي، قدم لها جورج مغامس، وادارها المحامي جورج بارود.
ديبو
قالت د. أمل ديبو في مداخلتها: “أمام عملين، مكتوبين بعرق ودم وبسهر العيون والضمير. هذا الجهاد الذي نذر الباحث والكاتب والعالم الإجتماعي حياته له، هدفه أن ننفذ بواسطته إلى الحقيقة من وراء الكلمات وإلى الجوهر من وراء الأديان. وإعادة الخلق لتصويب مسيرة البشر”، لافتة الى ان “ما يجمع بين الكتابين وكل الكتب التي وضعها عبدو قاعي وبين كل الكتب هي الكلمة، وهي القناة التي تجمعنا بالله، ولولا الكلمة التي اودعها الله الأنبياء وتجسد في ابنه، ونقلها في القرآن، لما عرفنا التوحيد. فالكلمة، هي الطريق والحق والحياة وقد اعطانا الخالق عقلا وضميرا. أعطى كل ذلك للانسان لكي يفهم”.
تساءلت:”ما الفهم وما الحقيقة؟”، لافتة الى “صعوبة أن يأتي الكلام في لون مع الحقيقة، وهي ابتعاد المعنى عن المصدر”، معتبرة ان قاعي “يدأب من جهة إلى إجلاء المعنى الأول للكلمة، للمفهوم، من كل الشوائب التي علقت فيه من تفاسير وخبرات على مر العصور، ومن جهة أخرى يسعى إلى جمع كل المعاني التي وسعت المفهوم إلى واحد، إلى الأصل”.
أضافت: “يدعونا الباحث إلى السفر على متن كل كلمة لنلتقيها في كل مرحلة من وجودها وتواريخها”، وان “الحوار الدائر بين الخبرات، المعترف به من قبل عقل الآخر والآخرين، هدفه أن نرتفع عن الفوارق والتقسيمات، حتى نظفر معا بالمعنى المنطقي لكل منها.
تضيق الحدود بهذا الضمير الذي يأبى العبودية والمحدودية – العبودية. وهكذا ينطلق الباحث على طريق البحث والغوص والمخاطرة إلى حد أنه يستطيع أن يكتشف الرابط السري بين ولادة الأحرف وولادة الحضارات الإنسانية. هذا الرابط هو من فجر الخليقة حين آدم سمى الأشياء بأسمائها.
على عكس فرويد الذي كان يرى فيه الأخر المغتصب والمهاجم، عبدو قاعي يرى أن الحضارة الإنسانية، هي التي، فرديا وجماعيا، كانت دائما تحمي الانسان من طبيعته الدفاعية البدائية، على عكس ذلك، الديانات بنت لها حصونا وشنت الحروب تحت لوائها لأنها فقدت الروح: الإصغاء والقبول والانفتاح والتسامح والفهم: فهم القلب والإنتباه إلى الام الأخرين. هي تلك التجارب التي تجعل من الحضارة مساحة من التحرر الإنساني حتى نساعد الثقافات الاجتماعية على التحول إلى ثقافات مدنية. في المدينة ال-polis، يصير الفرد إنسانا قال أرسطو باحتكاك الآخر بالآخر.
ليس للإنسان خيار، يجب أن يعيد خلق ذاته بصفته كائن الكلمة وهي مغامرة الكلمة، الكلمة التي تحمي البشرى، الكلمة القول والفعل والبشرى. الكلمة اللغة، قاعي يربطها ببعضها البعض ويشدها إلى الإلتزام. لأن القول والإعلان عن هذا القول والإعتراف به هو أخذ موقف من الأشياء، اللغة الانسانية هي إلتزام المواطنة. المواطنة ليست أقل الكلمات التي أوقف لها عبدو حياته. هذا الباحث الذي رأى النور والمشهد الآخروي exchatologique يرجع إلى الأرض ليحكي لنا رؤياه.
تفاسير الكلمات أخذت بالتباعد عن معناها الأصل. كل الكلمات عليها أن تصوب، أن تؤلف وأن يعاد تأليفها هنا والان وفي كل الأزمنة مجتمعة، على مسافة من الحدود الإجتماعية والثقافية المتنوعة والتي تتضارب فيها وتتأثر منها.
الاستثمار أو التنمية عند الباحث هو عمل للتفكر وللتبصر أكثر منه هدفا نصل إليه ونطوع الارض التي بدأت تئن من الدمار والبناء العشوائي المدمر لروح المدينة. وهذا الاستثمار عند عبدو ليس هو ذاته عند هؤلاء المستثمرين الذين يخنقون المدينة اليوم . قراءته للإستثمار تدعونا للبحث في المستوى الإجتماعي البيئي والإنساني، هو يدعونا، بخاصة، لأن نكون كاملين وأن نستطيع أن نكمل العالم بأفضل وجه.
نحن اليوم نعيش حالة تشظى في اللغة (برج بابل)، نحن نسمع دوي الانفعالات، كأن الطبيعة تعود إلى بدائيتها الموحشة. فيحاول عبدو أن يتصدى لهذا الواقع في العقول، فيبدأ البناء. يفرد لكل ركن من أركان الحياة الحضارية والانسانية بابا: السلام، الحوار، الإقتصاد، المواطنة، السلطة، الإستثمار والتنمية، الدين والإيمان، الطاعة، الفقر والتربية”.
وختمت: “عبدو يتحدى العقول النيرة. رجل لا يغمض عينيه على مآسينا. ملتزم، مواطن مخلص، طاهر القلب، حر التفكير من قيود المادة والنفعية. يخاطب الناس اجمعين، بعد أن اكتشف أن من العقول النيرة من ارتهن لمسايرة الإمبرطوريات الرومانية الحديثة. عبدو يندفع مع الأمل الجميل الذي بقي في أرواحنا وضمائرنا، وهو الأمل الذي يجب انعاشه بواسطة إصرارنا على القراءة والإصغاء والتحليل العميق والجدي والموضوعي، إنطلاقا من استعادتنا لإيماننا بذواتنا وبالآخرين ككائنات تقدر أن تتخطى نفسها وأن تتبلور وتنهض بمجتمع على دروب الكمال بالحب. فإذا سمعتم صوته وقرأتموه، لا تقسوا قلوبكم”.
يشوعي
أما الدكتور إيلي يشوعي فقال: “عبدو قاعي باحث مسؤول عن فكره وكلمته، يغوص فيه بشغف ويقولها بصوت عال مدو كصوت يوحنا في صحراء هذا العلم.
كدنا أن نكلف بإعادة بناء لبنان بعد حربه الداخلية الطويلة التي هدمته، لكن إرادة الهدم كانت الأقوى فاستمرت حاجبة إرادة البناء. في نفسينا مرارة وأسف وعتب وحزن، مرارة رؤية الفساد يتغلب على النزاهة، والرداءة على الكفاءة، والخطأ على الصواب، والجهل على العلم والظلم على الإنصاف والإنحراف على الإستقامة، والفوضى على الصفاء، والمادية على الإنسانية.
في كتابيه الأخيرين: “في ما بعد الدين” و”في سلطة الكلمات”، يريد عبدو قاعي من الإنسان أن يعترف بذاته الإنسانية بعد أن يتعرف إليها. وهو يرى الإنسان جيدا في طبيعته، لكن المجتمع المختل أفسده ولا يزال، إن ذاكرة الإنسان حسب المؤلف الباحث يمكن أن تشكل عنصرا من عناصر السوء يؤثر سلبا على قدراته، عندما تجمع الأحداث الخارجية وتراكمها وتفرقها في الذاكرة الباطنية وتمنع وعي ثغرات الأخيرة، لكن، إذا وعى الإنسان سلبيات ذاكرته الباطنية وتخطاها، اكتسب القدرة اللازمة على الإرتقاء إلى ذاته الإنسانية. إن الخط الثابت في الذاكرة البشرية صنع التاريخ أو صنع القيمة الزمنية والبشرية.
الإنسان في هذا العالم إن كان عربيا أو آسيويا أو إفريقيا أو أوروبيا أو أميركيا، هو حقيقة أتى من التكوين الإبراهيمي، وابراهيم صورة واحدة للتكوين الإنساني من الإله الواحد، حطم الذاكرة الباطنية المبنية على الآلهة المتعددة، وما يجري اليوم في هذا العالم هو إعادة إحياء تلك الذاكرة التي حطمها ابراهيم. لذلك يريد الباحث من ناس كل تلك الحضارات والقوميات أن يكونوا متقابلين، متعاونين، متساوين، متجادلين بسلام ومتكاملين باستمرار، وينسب ذلك على اللبنانيين الذين يراهم الكاتب أنواعا يريدها أيضا متقابلة ومتجادلة ومتساندة”.
وقال: “إن المجتمع الدولي غير موجود، يقول الباحث، لأنه ميز بين الأمم: دول غنية ودول فقيرة، دول ظالمة ودول مظلومة، دول نامية ودول متقدمة، شعوب رفه وشعوب حرمان، شعوب تخمة وشعوب جوع ومرض. يريد الأمم كالبشر متقابلة، متساوية، متعاونة ومتساندة. أما المجتمع العربي فهو مجتمع أمراء وإقطاع من دون شعب، منعوا قيام المجتمع العربي وتحرر الشعوب وتقدمها. فكما قيافا قال للمسيح عندما أجابه أنه إبن الله: “لا تحرر الدين، فهو مرتبط فينا وبي لا بالله”. حول الإقطاع والأمراء ربيع التحرر العربي إلى وسائل تسلح بها 95% من الشعوب، لكي يقتلوا بعضهم البعض، وكأنهم كانوا يقولون لهم ولا يزالون: لا تحرروا المجتمعات العربية منا فهي مرتبطة فينا وبنا لا بالحرية والمساواة.
في كتابات عبدو قاعي، فضلا عن الفيلسوف المميز، الإقتصادي المهم عندما يتكلم بإسهاب على مبدأي الإنتقال وإعادة التوزيع اللذين يربطهما ببعضهما بمهنية وجدارة، فحسن إعادة توزيع الثروات بواسطة الجدارة والنزاهة وأنظمة الضريبة العادلة والتقديمات الإجتماعية من قبل أصحاب القرار يضمن أفقية الإنتقال للسلع والخدمات ومحاربة الفقر والحرمان وضمان العيش الإنساني الكريم بحرية وكرامة.
عبدو قاعي، فيك نور إلهي توصلت إليه فساعدك على تحقيق ذاتك الإنسانية، في المعتقد والتقليد والحداثة والنقد والإلتزام والتربية والنوايا والإيمان والذاكرة. لك مني وعندي كل محبتي من ذاتي الإنسانية”.
مغامس
تحدث الأديب جورج معامس فقال: “أدركته وهو يدارك القمم، وقل القيعان – سيان ما بين شامخ رسخ أو راسخ شمخ، في مخاضات الفكر والشعر وتاليات التجلي، البالغ في العلم عتيا موصول الهوى ببانتيون العظام، وفتح عليه من الميثات والأديان إشراق فصيح، مسكون هو بالهواجس الكبرى مكانية وماورائية، يصرفها أسئلة تقض وتورط، ويمخر عباب بحر الظلمات، يستكشف بحمية بطرسية وإصبع توماوية وصوفية وجودية تجاوزية رموزا وأسرارا.. يجوز رهاب التيه والغرق “ووجهه وضاح وثغره باسم.
أبدا في غمرة المواجهات اللازبة، يقطع ويصل ما بين الدين والإيمان، والإيمان والعقل، والعقل والقلب، والقلب وما فاض فيه من الأنوار، يرى ويعاني كيف يقتل الله على حد الحرف والسبت ومرتوية حمقاء وسيمونية نكراء وفتوية لا تبقي ولا تذر.
يرى ويعاني كيف يجلد العقل بوطأة التسخيف والتسخير، وكيف يحجر على نقده المفكك المركب البناء، وكيف تنكأ جساراته وتشوفاته ولقياته بحراب الجهل والحقد والحسد. يرى ويعاني كيف تبتلى مهاب الروح بالآكلات مكرا رياء كبرياء. أثرة خبيثة مصاصة نسغ ونضارة تسلم لبؤس ليأس، للإلحاد للامبالاة، لمذبحة عبدة الله والمال. يرى الشيطنة تتقضب حول مدارات العصر، تهصر مواعيد المحبة والرجاء وهي في الأرحام، ويغضب يزأر. لكن البرية خواء، والخواء مستبد يبدد.
بين يديه، نرى إلى الكلمة تتعرى من صدف من صدأ ومن وحول مناتين، وتغتسل بماء المقاصد والسياقات، تلبس حلل صوته النبوي، ونرى الى التراث موروثا ثمينا من جواهر كل حي ويحيي يتيح أفقا جديدا، وإلى التربية منقذا من الضلال ويعيل، صخرة تبنى عليها بيوت وأوطان، دنحا رشاس زوفاه نهر يزهر حمامة وسرورا، وإلى السلطة عينا تسهر، ويدا تخطط تنفذ تحفز تحمي تهدي تعدل وتسعد، وإلى الحرية شعلة زرقاء في الوجدان تتوقد، تنثر الأنجم على تقاطعات كل حوار.. تفعل تنمي وتثمر بيض المواقف التي تلاحم وتشرف.
عبده قاعي يعيد الاعتبار إلى كثير من الأطاريح، يجاهد الجهاد الحسن، يخشى ولا يخشى، ويثير الجدل؛ وما همه أنه الطريد من جنة السلاطين، أو هو على قارعة الحقيقة رسولها الشهيد!، وما همه أخو الصفا هذا، أنه حلاجنا الجديد”.
جورج بارود
ورأى بارود في كلمته أن “كتابين للباحث عبده القاعي في زمن التنازع بين الشك واليقين بل قل زمن التصلب الديني وقواعده التكفيرية المدمرة، ففي الازمات الصعبة، يضيع الاعتدال ويتحول التفكير إلى أحد قطبي القرص الممغنط الذي يدور على نفسه؛ فإما أن تكون في هذا الجانب الذي يقبل الامور على علاتها من خلفية إيمانية تقليدية مكتسبة، أو تكون في الجانب الآخر الرافض، الذي يطرح الاسئلة ويجترح التفاسير ويحاول الوصول إلى حقائق جديدة وحلول لمسائل مطروحة.
عبده القاعي، الباحث الذي نشأ على العمل الاجتماعي، وقد أهواه الفكر الانساني، فاختلطت في منهجه النظم العقائدية بالمسالك الاجتماعية، خاصة بعد الردة التي لاحظ ولادتها مع عودة المظهر العقائدي البدائي للاديان وبروز التطرف والتعصب ورفض الاخر ولو كان من نفس الدين وحتى الطائفة إنما من مذهب مختلف من جهة، وسرعة دوامة الحياة المادية الرامية إلى إهمال السمو وفقدان الذاكرة البيولوجية والانخطاف نحو الذاكرة المكتوبة والرقمية من جهة ثانية؛ فراح يفتش عن ثوابت اجتماعية ضامنة للعدالة والمساواة بين الناس الذين ارتدوا إلى جماعاتهم وعشائرهم ليؤمنوا الحماية والسلامة لذواتهم وعيالهم”، لافتا الى ان الكاتب “عزا هذا التضعضع المجتمعي إلى فشل الانسان في عيش الحقائق الدينية الصحيحة، بانغلاقه داخل شرنقة عقائدية صماء، ما ترك انعكاسا على أموره الحياتية: السياسية، الاجتماعية والتربوية.
الكتابان يدعوانك إلى اكتشاف نفسك، بين واقعك المحسوس وعالمك اللامحسوس، ويشعرانك بمجرد الاطلاع على عنوانيهما بأنك تعيش في عالم نوراني، زمني وروحي يخرجك من عالم ظلمات الظلمات.
لقد آليت على نفسي بهذه الكلمة الموجزة أن أمهد لاقدم زميلا لي، عرف عبده القاعي وعايشه ولا يزال. فإنه، وإن كان دوري يقتصر على إدارة الندوة، إلا أنني وبمشاركة جورج مغامس لا أستطيع على عكس عادتي في إدارة الجلسات – إلا أن أكون، على اغتباط واعتزاز يصل إلى حد الانحياز. أما انحيازي لشخصه، فلانني زاملته شخصيا منذ بداية الستينات، ونشأنا معا، وكان كما هو عليه دوما لماحا، لماعا ولامعا؛ تستهويك عباراته الصعبة المنحوتة بدقة والرامية أبدا إلى بعد، تطاله أن تابعته بتأن، وترصدت عباراته ووقفت على مغازيها. فالرجل صعب ومتابعته صعبة أيضا. يهوى منذ صغره الرمزية ويأنف السهولة والتبسيط. وقد سألني أحدهم، وهو أستاذ كبير في اللغة والادب، لمن يكتب جورج مغامس؟ فأجبته: على ما أعرفه عنه أنه يكتب لنفسه أولا ولمن يستطيع متابعته ويستحق أن يفهم ما يكتبه.
نعم، إن جورج مغامس يكتب للنخبة، وما أكنه عباراته ان استطعت سبر غورها. أما اغتباطي فلإن جورج مغامس سيفتتح هذه الندوة بالكلام على الاستاذ عبده القاعي الذي يعرف حالاته وتحولاته الفكرية تاركا للمتداخلين الآخرين مسألة مناقشة مضمون كتابيه”.