الشاعر حسن منصور
تَمضي الْحَياةُ وقد مَضى عنّي غَدُ
مِن بعــدِ أنْ أبْطا عـليَّ الْمَوْعـدُ
وبقــيتُ مُنتَظِــراً غــداً مُتَجـدّداً
والعـمْــرُ ليسَ يَزيدُ أو يتَجَـــدَّد
ما الأمسُ إلاّ مُنْيَتي وغَدي الّذي
كان اشْــتِـياقي قـبْـلَــه يتــَوَقَّــــد
يا هـذهِ الأيّامُ ترْقُــصُ حـوْلـــَنا
وتَغــيـبُ كالـظّـلِّ الــذي يـتَـبــدَّد
وتظلُّ أطْيافٌ لها في خاطِري
يَشْقى الفـؤادُ بظــلِّـها أوْ يَسْعَــــد
في كلِّ يومٍ أبْـتَـني لِي قــلْعَــةً
بِحجــارةِ الأمـلِ الذي لا يَنْـفـــَدُ
مُتحَـصِّنٌ منْ كلِّ غــائِلَةٍ بِهـا
إنْ جـاءَ لــيلٌ أوْ ضَـبابٌ أســوَدُ
فـكأنَّـني لُـبَدٌ جَــديدٌ خـــالِــدٌ
منْ بعــدِ أنْ أخْـــنَتْ عـلى لُبَدٍ يَدُ
مِن حوْلِيَ البيْداءُ بينَ رمالِها
لُجَــجٌ بِـها الْمَــوتُ الزُّؤامُ مُؤَكَّـد
لا يُهتَدى فيها لِرَسْمٍ أو تُرى
أبْعــادُها، والصَّمـتُ فـيها سَرمَـد
قد أعمَلتْ فيها الرّياحُ سَوافِياً
بِعــزيِمـةٍ تَمــضي ولا تـتَــردَّ د
حتّى الْخَنافِسُ والْجَنادِبُ لم تكنْ
تـنْجـــو إذا مـا ثـارَ نقْـــعٌ أرْبَــد
****
وتَلوحُ للعَينِ الرّوابِي غَــضّةً
فـتقــولُ لي نفسي: هُـناك الْمَقْــصِد
فلْتتَّخِذْ متْنَ العواصفِ مَرْكباً
يُـدنيــكَ مــنْ تلـك الـرُّبَى ويُسَــدِّد
ومَشيْتُ في درْبِي بغيرِ تَمَهُّلٍ
مُتَخاذِلاً طوْراً وطوراً أصْمُد
يَتجاذَبُ النّفسَ الشَّحيحَةَ هاجِسٌ
يَهْــوي بِها، وعَـزيِمةٌ تتَمــرَّد
خَوفٌ من الْمَجهولِ معْ أمَلٍ بهِ
والْخَوفُ يُفْني والرَّجاءُ يُجَدِّد
مُــترَدّدٌ مُتـقَــلّــبٌ في حالَـتَيْ:
فــرَحٍ يُغـنّي أو هُمـومٍ تُرْعِـد
وأنا يُمـزِّقُـــني صِراعٌ دائـمٌ
وغُبارُه يُخْفي الطّريقَ ويوصِدُ
فأكونُ كالأَعْشى يسيرُ ولا يَرى
أمُغَـــوِّرٌ في درْبِـه أم مُــنْجِــد
****
وإذا انْجَلى ذاك الغُبارُ على الْمَدى
بزغَتْ شُموسٌ وانْجَلى لِي الْمَشهَـد
فأرى الرُّبَى تبَدو أمامي ثانياً
طابَ الْمُنى فـيها وطابَ الْمَوْرِد
وأرى الفؤادَ تَهــزُّنِي خـفَـقــاتُهُ
وطـيورُه تشْدو الْهَـنا وتُغـرِّد
وأرى الْهَجــيرَ كَواحَـةٍ فـيْنانَـةٍ
وظلالُـهــا وغُصونُهـا تَتــأوَّد
وأرى السّرابَ إذا بدا لِي كوْثراً
أرْتـــــادُه وبِـمــائِـــهِ أتَـبَــرَّد
وقـوافِــلُ الأيّـامِ أحْــدوهــا لــَه
وأُريدُهــا مـن مـائِه تتَـزوَّد
وأنا أسـيرُ كأنَّـني مــاضٍ إلَـى
مُـلْـكٍ مُـقــيمٍ ما أقامَ الفَـرْقَـد
أنسى شَقائي في الطّريقِ إلى الْمُنى
وأقــولُ ثَمَّ سيَـسْتَريحُ الْمُجْهَـد
****
تلك الْحَياةُ وما بِها من زيـنةٍ
ألْوانُهـــا بنُـفــوسِـنا تتَـولَّـــــد
بَحرٌ من الأوْهامِ يأْسِرُ حسْنُه
وعـلى شواطِـئِه عيونٌ ترْصُد
تتَـرقَّــبُ الْحَـظَّ السّـعــيدَ لعلَّهــا
من لُؤْلــؤِ الأوْهــامِ قـد تتَصَيَّد
ويَضيعُ عمْري في الطّريقِ كأنَّه
حـبّاتُ عِـقـدٍ إثْرَ بعْــضٍ تُفْـقَـد
فكأنَّ عمري والطريقَ تَرافَقا
فـإذا انْتَهى هــذا فـذاكَ سَـيَنْفـدُ
*****
(*) من المجموعة الرابعة، ديوان: (شواطئ السراب) ص86 ـ دار أمواج للطباعة والنشر والتوزيع