د. عمر الطبّاع
لست أدري لماذا ارتسم في ذهني دور الشاعر القديم، وأنا أطالع بارتياح وإعجاب، كتاب الأستاذ جورج شامي الأخير “قصّتي مع منح الصلح”.
لقد واكبتني بإلحاح صورة تلك الكوكبة من شعراء الأعصر في مسارح الجزيرة العربية وبالتالي في مواكب التاريخ الأموي بوجه خاصّ، حينما كان أولئك النوابغ يصولون ويجولون في مسارح الحياة القبلية أو ساحات ملوك الغساسنة والمناذرة، ومن ثم في بلاطات الخلفاء والأمراء في الشام وحواضر الخلافة، حيث كانوا يرفعون لواء عشائرهم وقبائلهم مرتجلين قريظتهم في الفخر والحماسة دفاعاً عن قبيلتهم، ونيلاً من خصوم هذا القبيل مادحين فرسانهم ورجالاتهم منوّهين بمآثرهم، ومندّدين بأعدائهم ومشهّرين بمخازيهم وهزائمهم. وتاريخ آداب العرب حافل بأقوال الرواة في هذا الصدد، حتى قيل: الشعر ديوان العرب.
كل هذا التصوّر شخص في ذاكرتي وأنا مأخوذ بقصة الصحفي المخضرم جورج شامي المشهود له في دنيا الكلمة على مسرح ساحة الساحة السياسية والاجتماعية والفكرية، محاولاً التعاون مع رجل العروبة المنافح عن حدود الأمة، في وجه المتآمرين عليها والنيل من أمجادها، عنيت في ذلك، العلاّمة البحّاثة والمؤرخ “منح الصلح”، رحمه الله.
والقصة المومى اليها، هي بإيجاز كليّ، كما أوردها – جورج شامي وهو أحد عمالقة الصحافة في أواخر القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين، وتحديداً في مجلة الأسبوع العربي بشخص كبير أعلامها المسؤول عن رئاسة تحريرها وإدارتها في ثمانينات القرن الماضي شارل ابو عضل الذي تسلّم المشعل، حسب عبارة الاستاذ جورج شامي من والده الاستاذ جورج ابو عضل.
يقول جورج شامي الذي كان يمارس “مهنة المتاعب” – كناية منه عن العمل الصحفي – في الأسبوع العربي .. بأن الاستاذ جورج ابو عضل .. أسرّ إليه برغبته في أن يخطف اللبناني العروبي المتنوّر “منح الصلح” من مجلة الحوادث ليكون له دور يلعبه في الأسبوع العربي”.
وكان من نتائج هذا الحوار بين الكبيرين في الصحافة اللبنانية شارل ابو عضل وجورج شامي، أن الاخير- قبل أن يقوم بهذه الوساطة، “دون أن يستطيع أن يعطي أية ضمانة”، يعتبر أن منح الصلح – كما نعته – رجل عنيد ومقتنع بخطواته وبمساره وبارتباطه بـ “الحوادث”، منذ سنوات.
وايجازا في عرض هذا الموضوع، نقول بأن جورج شامي تمكن بحنكته وإلمامه بسيكولوجية منح الصلح، من اقناعه للتعاون مع الأسبوع العربي، تحت اسم مستعار وترتيب مبرمج، وأن تكون مقالته الاسبوعية، بإسم مستعار، واتفق الاثنان على ان تكون المقالات، بتحرير مشترك بينهما الصلح يوقع مقالته بإسم جمال شريف”، وجورج يوقّع مقالته بإسم منيف صالح.
يقول جورج شامي : “وبتاريخ 22-9-1980 نشرت المقالة الأولى بتوقيع جمال شريف وتبعتها سلسلة من المقالات الاسبوعية حتى 22-11-1982 تاريخ آخر مقالة منها، تسع منها حملت توقيع “منيف صالح”، كتبها الإثنان معا.
هذا باختصار السياق الذي تمّ فيه انجاز الاتفاق المذكور، والسياق بكامل حيثياته وارد في كتاب جورج شامي “قصتي مع منح الصلح، في الصفحات (12-20)، تحت عنوان “مدخل الحكاية” . الذي يتسم بالبراعة الإعلامية، والطرافة النادرة، والبيان المشرق، والذي من حق القارئ علينا أن ننصحه بمطالعته وقراءة “التمهيد” الذي سبقه، لما في ذلك من الطلاوة في السرد والفائدة في الاطلاع، بحيث يكون ما أوجزناه مجرّد محفز للولوج الى لبّ ذلك المدخل، فهو يعكس النبوغ في الصحافة الدالّ على حقبة من الزمن أولاً، والذي ينطوي بالتالي على ذكر نفر من العمالقة في تاريخ الصحافة اللبنانية، علماً بأن المدخل الذي اقتصدنا في عرضه لا يغني عن مغزاه الحقيقي، وليس هو إلا توطئة للتبحّر في فصول القصّة بالذات، قصدنا قصّة المقالات التي نشرت في الأسبوع العربي، على مدى عامين كاملين. وفي الأسطر قبل بدايتها يقول جورج شامي:
ها أنا أعود الى نشر هذه النصوص التي تنم عن أفكار مشتركة متنوّرة عميقة الأغوار، مديدة الأبعاد، بلورية المواقف عصية على النسيان، وعلى الاهتراء .. لم تفقد ديمومتها على الرغم من مرور الزمن، ولم تفقد صلاحيتها وتنسحب من ساحات التداول: ويبقى جمال شريف، ومنيف صالح اثنين وقلماً واحداً في زمن الإحباط والفرقة.
واحتكاماً إلى واقع تلك النصوص، وعلى نحو ما وصفت لا بدّ من محاولة إلقاء الضوء على مساحتها التي استغرقت قرابة ثلاثماية صفحة من القطع المتوسط، لتبصر النور بعد أكثر من ثلاثة عقود، لتضع بين يدي الجمهور اللبناني، وبالتالي مساحة العالم العربي، عصارة دأب حثيث، وجذوة فكر نيّر، وبياناً مشرقاً بعزم قوي وإرادة صلبة لا تنكفئ وطموح الى المراتب العليا من الانجاز لا في الصحافة اللبنانية، بل الصحافة على امتداد الوطن القومي، من المحيط الى الخليج. وكان للإعلامي الناشر الأستاذ سليمان بختي شرف نشر هذا الكتاب على الملأ الواسع، عن داره العريقة، دار نلسن، التي عوّدتنا منذ تأسيسها على مواكبة كتب النوابغ في حقول الفكر العربي في الأدب والشعر والسياسة والاجتماع.
وللقارئ الحق في الوقوف على فحوى تلك النصوص التي ضمّها الكتاب المذكور. وقد وجدت أنّ عناوين تلك المقالات الأسبوعية كفيلة بأن تستجيب لتلك الرغبة، وفي الوقت نفسه أن تروي الظمأ من معين الصحافة اللبنانية المزوّدة بالسليقة والعفوية، والمسلّحة بالثقافة الرشيدة والعريقة.
فقد القى الكاتبان الاستاذان “الشامي” و”الصلح”، بخبرتهما الطويلة في دنيا القلم والإعلام، وثقلهما في حقل حفل بعطاء إبداعهما، ويكفي أن تعدّد عناوين عدد من هذه المقالات لنضع بيد القارئ المتفهم والمطالع الأديب خيوط نسيج من عقل مشبع بالواقعية، ومدرك لصعاب مهنة المتاعب، ملم بثقافة العصر وأبعاده السياسية والاجتماعية، فقد كان الكاتبان في حلبة صراع مستحكم ومسيرة بعيدة عن الرتابة والركود، غارقة في لجج عميقة الغور، عالية الثبج، جارفة لا يقوى على مجابهتها إلا ذوو العزائم التي لا تنكفئ في معركة الوجود.
فقد طرح الصحفيان المبدعان على القارئ العربي حقائق مشبعة بالتجارب التاريخيّة، وهكذا توالت مقالاتهما حول “عسكر تركيا، وعسكر لبنان، والوقفة مع الصديق إلى موسكو، والمارونية الأنجح، ومارونية فاعلة، وتعريب الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، والوحدة الوطنية المشروطة، وكل الطرق مسدودة الى روما ما عدا طريق الحوار والبرلمان اللبناني بين الفرادة والغرابة ومشاريع لتنظيم الانقسام لا لبناء الوحدة، وصقور في أميركا وحمائم في إسرائيل، وصمود دون صدام، والصحوة الاسلامية المعاصرة، والقرار اللبناني المستقل، ولا التدويل ولا التعريب، ومرحلة الانعطاف، وخريف الأمل، وبعض الشر أهون من بعض ومحنة لبنان في سياسته الخارجية، والحرب المباشرة مع النفط العربي، وإيران بين حكم الفقه، وحكم الفقيه، ولبنان بين مغامرة الانقاذ والجمهورية اللبنانية
تلك هي الخطوط الأولى في النصوص الشيقة التي كتبت بالعقل والوجدان، والمثابرة والالحاح والتمرّد، وإرادة لا تستكين وبالدم والأعصاب والأحاسيس المرهفة، خلال ردح طويل من الزمن وعلى مدى نحو من سنتين اثنتين، وذاعت في أرجاء المعمور حافلة بالمفاجآت والأسراروالعبر والعظات.
هذه النصوص وتعدادها أربعون مقالاً أملتها الأحداث المعاصرة في لبنان، على في غضون مئة أسبوع، تستقبل بتقدير مع صدور الكتاب الذي جمعها، تناوله الاستاذ سليمان بختي في دار الندوة بقوله: “نلتقي اليوم حول كتاب مختلف يكتسب قيمته من مصدرين: الأول التقاء الصحافة والفكر على مستوى واحد، والجهد الصحفي المميّز الذي بذله المؤلف جورج شامي في الإضاءة واعادة الاعتبار لفكر الراحل منح الصلح، والروح التصالحية التي دعا اليها بين مكنونات المجتمع اللبناني وعلاقة معنى اللبنانية بالعروبة. لطالما اعتبر منح الصلح أن الديموقراطية هي بحدّ ذاتها مصالحة وممارسة النظام الديموقراطي، هي المصالحة المستمرة داخل شعب من الشعوب، ومما قاله الأستاذ بشارة مرهج بإسم دار الندوة: “اللقاء الذي انعقد ذات يوم في عام 1980 بين صحافي لامع متمكن من اللغة العربية . . وأستاذ محب للعطاء تفيض خزائنه بالمعارف والمقاربات الساحرة . . هذا اللقاء أثمر مقالات رائعة واضحة المقاصد . . ذاك الحوار الداخلي بين الإثنين والذي تطل ملامحه بين السطور كلما توغلت في صفحات الكتاب . . ارتقاء الى وحدة العبارة وسطوة الفكرة.
وقال انطوان يزبك: لقد شاء القدر أن يرحل منح الصلح العام الماضي لتبقى جذوة الفكر متقدة شاهدة على مرحلة من أخطر المراحل في تاريخ لبنان.
وجاء في كلمة الدكتور انطون سيف، باسم الحركة الثقافية في انطلياس: “ها هو – منح الصلح – معنا بعد شهور أربعة… يزورنا منح الصلح هذه العشية بناء على دعوة هو في المطاف الأخير داعيها الدائم.
كتاب: “قصتي مع منح الصلح” الذي انبثق من لقاء مثمر بين منح الصلح الذي حمل طوال سنين عطائه الفكري هموم القومية العربية، وبيان الصحفي اللامع الاستاذ جورج شامي الذي بدوره حمل هموم لبنان وسط التيارات السياسية المتصارعة حولنا، هو ثمرة عبقرية مطواعة تستعصي على الانكفاء والانكماش، ولا تخمد نورها ولا تخبو نارها مع كرّ الجديدين، فإلى الأستاذ سليمان بختي الناشر والى المؤلفين تحية إجلال من الملايين في العالم العربي، لأن هذا العطاء الباقي على الزمن دليل نبراس مشعّ سيظل يرسل ضياءه مهما ادلهمت الأجواء أو عصفت الرياح، لأنه نبراس الحقيقة والحرية والروح الوطنية الوثّابة.
*****
(*) بالاشتراك مع aleph-lam
http/www.georgetraboulsi.wordpress.com