الأديب الياس خوري
لماذا تتخذ الذكرى العاشرة لانتفاضة الاستقلال شكل الكابوس؟
هل هناك عطب في ذاكرتنا أم أننا يجب أن نبحث عن العطب في مكان آخر؟
يبدو ذلك اليوم ضبابيا في الذاكرة. ذهبت إلى ساحة الشهداء في بيروت، ثم صعدت إلى مكتبي في «ملحق النهار»، حيث كنت أعمل، كان سمير قصير قرب المنصة الرئيسية يساهم في التنظيم، بينما كنت أحاول أن أكتب نصا يصلح كي يكون موقفا يساريا من أجل الخلاص من الاستبداد.
صعدت إلى الطابق الثامن في الجريدة لأجد نفسي محاطا بمجموعة من قادة 14 آذار. حاولت أن أفهم منهم لماذا التردد في الذهاب إلى قصر بعبدا من أجل إسقاط رئيس الجمهورية، فلم أحصل إلا على جواب غائم.
أحسست بما يشبه خيبة الأمل، بالطبع كنت مذهولا من ضخامة الحشد الجماهيري الذي لا سابق له في تاريخ لبنان. يومها منعني التفاؤل والأمل من استيعاب معنى أن تكون مظاهرة 14 آذار ردا على مظاهرة 8 آذار التي نظمها حزب الله دعما للهيمنة السوريا على لبنان. اعتقدت أن المد الشعبي الجارف يستطيع ان يتجاوز هذا المنزلق الطائفي، وأن اللبنانيين قادرون على التوحد حول هدف الحرية.
نزلت إلى الساحة ووقفت مع الواقفين في انتظار قرار الصعود إلى قصر بعبدا من أجل إسقاط الرئيس، لكن بدلا من سماع القرار استمعنا إلى خطابات تفش الخلق لكنها لا تقول شيئا.
وعندما انتهت المظاهرة وطلب منا الانصراف إلى بيوتنا جاء من نقل لي ان جورج حاوي صرخ في وسط الحشود ان ما يجري خطأ تاريخي، وأنه قال إننا لا نستطيع أن نقوم بنصف ثورة، فالذي يوقف الثورة في منتصفها يفتح الباب أمام هزيمته وموته.
عدت إلى منزلي مشيا على الأقدام صحبة بعض الأصدقاء، كنا تحت تأثير وهج الأمل والحب، بحر الناس المتلاطم جعلنا ننسى خيبتنا من إيقاف الثورة في منتصفها، وحملنا على موج التفاؤل.
لكن حين وصلت إلى البيت شعرت بالمرارة. لقد هزم قادة 14 آذار الثورة لحظة ولادتها. وكل ما جرى بعد ذلك كان نتيجة ذلك اليوم.
التردد أو ما اعتقدناه ترددا كان قرارا، فالقيادات «المسيحية» قررت، بناء على نصيحة البطريرك، انه لا يجوز إسقاط الرئيس الماروني في الشارع، والقيادات الإسلامية تصرفت على هذا الأساس أيضا، لكن قرارها كان في الواقع جزءا من تصورها بأنها ستعيد ترتيب البلاد وفق المعادلة الطائفية، وفي ظل مناورات التوازنات الإقليمية الجديدة.
هل كان قرار إيقاف الثورة في منتصفها خطأ مثلما اعتقدنا، أم كان نتيجة منطقية لتركيبة قيادة انتفاضة الاستقلال التي هيمن عليها قادة الطوائف، ما جعل الحصاد مراً، خصوصا في الانتخابات النيابية التي تحولت إلى بازار طائفي؟.
الانتخابات كانت المحطة المفصلية لانهيار 14 آذار. التحالف الرباعي، بين قادة الطوائف السنية والشيعية والدرزية، دمّر التيار العلماني الديموقراطي في الجنوب، كما قضى على القوى المعتدلة في جبل لبنان الشمالي، وحول السياسة اللبنانية إلى لعبة توازن – صراع سني/ شيعي لا أفق له.
ثم اتخذ الانهيار شكلا مروعا في حرب تموز 2006. اذ تبلور انقسام داخلي مخيف، يذكّر بالانقسام خلال اجتياح لبنان عام 1982. وبدلا من ان تكون الهزيمة العسكرية لإسرائيل عنصر توحيد صارت عنصر تفتت، وصل إلى ذروته في اعتصام حزب الله أمام السراي الحكومي، الذي انتهى بسيطرته العسكرية على بيروت، وباتفاق الدوحة.
واليوم يصل العجز إلى كل مفاصل الدولة مع الفراغ الرئاسي، والحرب الإقليمية النائمة في عصب التركيبة اللبنانية.
ما نسميه سلسلة أخطاء، قد يكون صحيحا اذا أردنا تقييم تجربة اليسار اللبناني في المعمعة التي بدأت في 14 آذار 2005. حقيقةَ أن مناضلي اليسار كانوا أول شهداء الانتفاضة، بعد اغتيال سمير قصير وجورج حاوي، لم تدفع اليسار بكتلتيه: حركة اليسار الديمقراطي والحزب الشيوعي إلى بلورة موقف نقدي ومستقل يقود الشارع الذي تخلت عنه قيادته الطائفية، ما أدى إلى اندثار اليسار، وإلى فراغ سياسي وفكري وأخلاقي يجتاح الحياة السياسية اليوم.
لكن مقولة الأخطاء لا تنطبق على البنى السياسية الطائفية، فهي بنى تابعة للخارج الإقليمي، وتبعيتها هي مصدر استقوائها على خصومها من جهة، وسبب ضعفها الوطني من جهة ثانية.
قيادة 14 آذار التي انعقدت للتيار الحريري هي قيادة تابعة حكما للمحور السعودي مهما ادعت من استقلالية، كما ان قيادة 8 آذار التي يهمين عليها حزب الله لا خيار لها سوى ان تكون تابعة للمحور الإيراني. أي ان خيارات القيادتين محكومة بشكل كامل بهذا الاصطفاف الإقليمي، وكل كلام آخر لا معنى له.
أخطأت قيادة 14 آذار في حرب تموز، اذ لا يجوز الوقوف على الحياد أو تغطية العدوان حين تكون المواجهة مع إسرائيل، لكن خطأها كان جوابا على خطأ قيادة 8 آذار التي قادت مظاهرة الوفاء للاستبداد السوري في لبنان. وهذان خطآن بنيويان، أي محكومان بطبيعة القوى وليس بسياساتها. وهما جزء من مملكة الخطأ التي رافقت الدولة اللبنانية التي بنيت على المحاصصة الطائفية. لذا لا يستطيع المخطئ ان يعترف بأخطائه لأنه لا يعتبرها كذلك، إلا اذا افترضنا أن الطائفي صار علمانيا ووطنيا وموافقا على فصل السياسة عن الدين!
هل كان حلم 14 آذار مجرد تمرين عام على حلم الديمقراطية الذي يتشظى اليوم في سوريا والمشرق العربي؟ وهل كان الانقسام اللبناني السني/ الشيعي مؤشرا على هذه الحرب الهمجية التي تدور الآن في المشرق العربي؟
هل كان مقتل سمير قصير وجورج حاوي بداية الموت الذي يفترس المشرق العربي وليس نهايته كما افترضنا حين زرعنا زيتونة جليلية فوق دماء سمير قصير المراقة في الجبل الصغير؟
هل علينا أن لا نقرأ لبنان إلا بوصفه مرآة للمشرق العربي، وأن لا نرى فيه سوى ظل وطن ناقص لم يكتمل حتى بالموت؟
لا أريد ان أقول هذا الكلام الذي يقودني إليه تشاؤم العقل. فتشاؤم العقل لا يكتمل الا بتفاؤل الإرادة، كما قال غرامشي.
أين نجد تفاؤل الإرادة الذي هو شرط قدرتنا على إعلان تشاؤم العقل؟
هذا هو السؤال الذي عليـــــنا ان نجيب عليه كي لا نسمح للوحش الطائفي الديني و/ أو للاستبداد الذي يجتاح المنطقة بافتراسنا.
******
(*) القدس العربي 17-3-2015