د. عبدالله الملاح
المشاركةُ في ندوةٍ حولَ مذكراتِ أوهانس باشا قيومجيان[1]، أمرٌ يعني لي الكثير لأنه يشكّلُ محوراً من محاورِ اهتماماتي العلميةِ والأكاديميةِ التأريخية. رحبّتُ بالبادرةِ متجاوباً مع رغبةِ الحركةِ الثقافيةِ– انطلياس، مشكورةً، لنقرأَ معاً في هذه المذكرات.
عاش أوهانس باشا في ربوعِنا سنتين ونصفَ السنة بالتمامِ والكمال، اختصرها بمذكراتٍ حملتْ تجربتَه في العملِ الحكومي وصورتْ نهجَه ومنهجَه في الإدارةِ والحكم، وخطتْ طريقَ المآسي التي عبرَها في رحلةِ العودةِ الى العاصمةِ العثمانية.
فما اكتنزتْ هذه المذكراتُ؟ وماذا عن شخصيةِ الكاتبِ من خلال طيّاتِ كتابِه؟
أيُّها الأصدقاءُ المنتدون
إنَّ تقديمَ أوهانس قيومجيان ومذكراتِه في عُجالةٍ من الوقتِ يستدعي حصرَ هذه المداخلةَ في ثلاثةِ محاور:
1 – أوهانس باشا في جبل لبنان
2 – شخصية الباشا من خلال مذكراته
3 – قضايا ومواقف يرفعها أوهانس باشا
– المحورُ الأول: أوهانس باشا في جبلِ لبنان
ينتمي أوهانس باشا إلى “أمّةٍ هذّبَ عقولَها رهبانٌ فرنسيونَ، ومبشرونَ أميركيون”، ورفعوا روحَ هذا الشعبِ ومعنوياتِه “فوق مستوى البيئةِ الآسيوية” (على حد تعبيره). وُلد في العاصمةِ العثمانيةِ في عائلةٍ أرمنية كاثوليكيةٍ متحدرةٍ من مدينةِ انقرة. والدُه بادروس افندي المعروفُ بثروتِه الواسعة، ووالدتُه حلبيةُ الأصل، “مارونيةُ المذهب، كريمة بولاكي حوّا وابنةُ أخ يوسف حوّا”، معتمدِ البطريركيةِ المارونيةِ في الآستانة.
نشأ أوهانس وسطَ أجواءٍ من “العطفِ والإعجابِ بفرنسا”، في أسرةٍ بورجوازيةٍ عريقةٍ، لم تمسَّها اضطهاداتُ السلطانِ عبد الحميد الثاني (1876-1909) ولا مجازرُه. تابع تحصيلَه العالي في العاصمةِ الفرنسيةِ باريس (1872-1877)، حيث ارتبطَ بصداقاتٍ ظلّت مدعاةَ افتخارِه من دون أن يتخلّى عن مشاعرِه الوطنيةِ العثمانية.
اشتهر بكونه رجلاً “تقياً فاضلاً”، ذا “أخلاقٍ عالية”؛ ووُصف بأنه “حَسَنُ الصفات ممدوحُ السيرة، واسعُ المعارف، ذو آدابٍ شريفةٍ وخِلالٍ كريمة”.
وقعَ الاختيارُ عليه في 23 كانون الأول 1912 ليكونَ متصرّفاً على جبل لبنان، أي بعدَ مرورِ خمسةَ أشهرٍ ونصفَ الشهرِ على رحيلِ المتصرّفِ السلفِ وشغورِ المنصب. والحال أنَّ أشُهرَ الشغورِ هذه كانت “من بين الأشهرِ الأكثرَ شؤماً في تاريخِ تركيا” التي أضاعتْ فيها وإلى الأبدِ الولاياتِ الأوروبيةَ، مما شكّل بدايةَ تفككِ السلطنةِ العثمانية[2].
استحوذَ على الاختيارِ لكونه الـ”مسيحيَّ”، “الأكثرَ جدارةً” بين المرشحين الآخرين[3]، فكانالأرمنيَّ الثاني بعد داود قره بت أرتين يراميان (1861 – 1868) والمتصرّفَ الأخير بين المجموعةِ التي حكمتْ جبلَ لبنان وفقَ نظامِ المتصرفيةِ الصادرِ في 9 حزيران 1861[4].
حاز هذه العطيّةَ بإجماعٍ دوليٍّ – عثمانيٍّ، لكنّ هذا الإجماعَ لم يوفرِ الطمأنينةَ ولا الاستقرارَ النفسيَّ للمتصرفِ الجديد، فاكتشفَ طلعت باشا[5]، وزيرُ الداخلية، ترددَّه، وسأله: “لماذا لا تريدُ الذهابَ إلى لبنان”؟
وعلى الرغمِ من القلقِ وحراجةِ الظرفِ اللذين تحكّما في الاختيارِ حزمَ المتصرفُ الجديدُ أمرَه وانتقلَ الى لبنان قُبَيْلَ اندلاعِ الحربِ العالميةِ الأولى التي خلفّتِ الموتَ واليتامى و الخرابَ والأيامى في لبنان والعالم، في حين تولّى داود باشا الحكمَ بعد أحداثٍ دمويةٍ عصفتْ باللبنانيين سنة 1860.
وصل بيروت عشيةَ الحادي والعشرينَ من كانون الثاني 1913[6]، على متن باخرةٍ فرنسية، خاطباً ودَّ اللبنانيين، مردِّداً أمام مستقبليه:
«أودُّ أن أحكمَ الجبلَ مع أهلِ العقلِ والعلمِ والمعرفةِ والإدراك، وأودُّ أن أجعلَ منه بلاداً عصريّةً راقيةً، فإذا ساعدتموني على تحقيقِ أمنيتي هذه شكرتُ فضلَكم وعاد السعيُ بالخيرِ والمنفعةِ على وطنِكم الذي أعتبرهُ منذ الآنَ وطناً لي. فأنا اليومَ لبنانيٌّ منكم».
وعندما تواجهَ مع جمال باشا، وشعرً أنه بات “عقبةً (embarrass)… في وجهِ حكومةِ السلطنة”، قرر الرحيل. فترك الحكمَ، قبل أن تنتهي ولايتُه، وقبل أن يستلمَ الإجازة رسمياً في 21 حزيران 1915[7]، رامياً مقاليدَ السلطةِ في يديّ المحاسبجي محمّد حليم بك التركي[8]. وبالمقابل، حكم داود باشا نحو سبعِ سنوات، وغادرلبنان في 12 نيسان 1868[9]، ميمّماً شطرَ العاصمةِ العثمانيةِ، حيث وقع في فخٍ أدى إلى استقالتِه في 10 أيار 1868 وابتعادِه عنِ الساحةِ اللبنانية،قبل أن ينهيَ ولايتَه أيضاً.
عادَ داود باشا إلى دارِ السعادةِ وزيراً لكنّ عودةَ أوهانس باشا إلى “بوزانتي خان”[10] كانت محفوفةً بالأخطارِ والمآسي وعبيقِ الموت.
المحور الثاني: شخصية “الباشا” من خلال مذكراته
تحلّى أوهانس باشا بطيبِ المزايا وكرمِ الشمائل؛ وتحمّل الضغوطَ والأعباءَ بقدْرٍ عالٍ من المسؤولية، لكنّه تركَ الوظيفةَ والأمجادَ، واعتكفَ إرادياً في زاويةٍ من زوايا روما، يسطّرُ مذكراتِه… فقيمةُ الإنسانِ في عطاءاتِه، وحقيقتُه في إنجازاتِه، فكان الدبلوماسيَّ اللبقَ، والموظفَ الحذقَ، والإداريَّ الحذرَ، والإصلاحيَّ اليقظ…
* أوهانس باشا والاصلاح في جبل لبنان
كان للطروحاتِ الإصلاحيةِ التي رفعتْها الصحفُ اللبنانيةُ والمراجعُ المعنيةُ إبّانَ المفاوضاتِ لاختيارِ متصرفٍ جديدٍ في أواخر العام 1912 صدىً إيجابياً في العاصمةِ العثمانية، فصدرَ بروتوكولُ تعيينِ أوهانس باشا مقيّداً بمجموعةِ بنودٍ إصلاحية، كان عليه المباشرةُ بتنفيذِها فورَ التموضعِ والتمركزِ في جبل لبنان. فأقدمَ، حسبَ ما أتيحَ له، على أداءِ واجبِه والسهرِ على “السلامِ المديدِ”، وفضّ الإشكالاتِ اليومية والحؤول دون تفاقم الأحداثِ التي عرفَها العهدُ السابق.
* الإداري الحذق
أدرك الباشا منذ تعيينِه أنّه يواجه في آنٍ واحدٍ مصالحَ متباينةً جدّاً، إن لم نقلْ متناقضةً، وعليه من خلال ذلك:
· التقيّدُ بنظامٍ وبروتوكولاتٍ طوّرتِ الحياةَ السياسيةَ والإداريةَ والاجتماعيةَ في جبلِ لبنان؛
· تقديمُ الولاءِ والإخلاصِ التامِ “للـسلطانِ” وللحكومةِ العثمانيةِ التي يمثّلُها؛
· إقامةُ “علاقاتٍ طيبةٍ مع الهيئةِ الدبلوماسيةِ” بعامّةٍ والفرنسيةِ بخاصّة.
هذه هي الخطةُ التي اضطلعَ بها إيفاءً لواجباتِ المنصبِ الذي تبوّأه، ولكنْ من دونِ أن يتيحَ “للقناصلةِ ولا لموظفي الحكومةِ العثمانيةِ ولا خصوصاً للبنانيينَ بخرقِ القوانين”، وبدون ان يسمحَ بتقاسم السلطةِ، المعطاةِ له بموجبِ فرمانٍ سلطانيٍّ، مع أحدٍ، لأنّها لا تخصُّ أحداً إلا هو وحدَه، الأمر الذي أغضب جورج بيكو، القنصل الفرنسي في بيروت، ودفعه لوصفه “بانه ذو طبع واهٍ، يتصدى لكل نصيحة تُسدى إليه”.
* الدبلوماسي المميز
التحق أوهانس باشا بعد تخرّجِه الجامعيِّ بنظارةِ الخارجيةِ العثمانيةِ بصفةِ كاتب، ومن ثَمَّ مستشاراً لسفارةِ الدولةِ العليةِ في روما، فمستشاراً في نظارةِ الخارجيةِ العثمانيةِ. وبقي في هذا المنصبِ حتى تاريخِ تعيينِه متصرّفاً.
اعتزَ بانتمائه إلى “مدرسةٍ من الدبلوماسيين المسيحيين” اختارتهم الحكومةُ العثمانيةُ لاحتلالِ مناصبَ عاليةٍ في الدولةِ بعد وضعِها على سكةِ الإصلاح. ولطالما شدّ هؤلاء الموظفون الأرمنُ الأنظارَ بإخلاصِهم للسلطانِ العثمانيِّ وللحكومةِ القائمةِ التي تنادي بالحريةِ والمساواةِ والعدالةِ، وأضحوا رسلَها المتنوّرين بعد أن تشرّبوا مبادئَ الحريةِ وعاشوا الليبراليةَ الأوروبية.
* الفقيه
شعرَ المتصرفُ أنَّ السلطاتِ العثمانيةَ العسكريةَ المهيمنةَ على جبلِ لبنان تعملُ على تهميشِه وتَحَيُّنِ الفرصِ لإبعادِه عن مسرحِ الجبل. فتصدّى لها متسلحاً بثقافتِه العاليةِ ودبلوماسيتِه الراقيةِ وحقِّه القانونيّ، فأسقطَ مزاعمَ والي بيروت العثماني، وأقنعَ القائدَ العسكريَّ زكي باشا بعدمِ السيرِ بمشروعِ “نزعِ سلاحِ مسيحيي لبنان”. ولتوضيحِ خلفيةِ هذينِ الحدثينِ نُحيلُ الجمهورَ الكريمَ إلى المذكراتِ لمطالعةِ المداولاتِ التي جرتْ بين أوهانس باشا وكلٍ من والي بيروت وزكي باشا وجمال باشا عندما ضجَّ الناسُ بخبرِ العَلَمِ العثمانيِّ الذي سقطَ أرضاً وداسَه عرَضاً اللبنانيُّ نجيب الشويفاتي، وبموضوعِ جمعِ السلاحِ من المسيحيين…
* الإنسان
تطالعنا المذكرات بمشاهد تَنقُلُ رهافةَ إحساس أوهانس باشا وتعاطفَه مع بني قومِه وبخاصة أولئك الذين كانوا يُساقون سوق المضطهَدين المعذبين نحو سوقِ السوائم. وقد بدتْ إنسانيتُه بأبهى ملامحها عندما صوّر الواقعَ المريرَ الذي تخبّطَ فيه المقتَلَعونَ من بيوتِهم، المُرَحَّلونَ عن ديارِهم؛ ومن هذه المشاهدَ نعرض التالي:
· مشهدُ ضابطٍ يدفع جوادَه على امرأةٍ أعمى الألمُ عقلَها، وأدمَتْها ضرباتُ سوطِه. وعندما سقطتْ وطفلَها الرضيعَ أرضاً على طولِها، انهالَ السوطُ عليها لإرغامِها على النهوض. ووسطَ أنينِ الوجعِ تمتمت “قائلةً لا يسعُني النهوضُ، إلى أين تقودُنا؟ فجاء الجوابُ: إلى الجحيم… ثم نُقِلت وهي شبه فاقدةٍ الوعيَ إلى أرض يُكَدَّس فيها الذين ينتظرون رحمةَ الله…
· وفي مشهدِ ثان نرى أوهانس باشا وزوجتَه في مركبةٍ ممدَّدَين مرتاحَين، ولكنهما مذهولانِ مربكانِ مفعمانِ بالإذلالِ حيالَ الوجوهِ التي ترمقُهُما بنظرةِ عتبٍ واستفسار. مشهد جعلهما في مأمنٍ من المحنةِ التي حلتْ بشعبهِما، ولكنّه أظهِر عجزَهما عن تقديمِ أيِّ عونٍ لجموعِ المساكينَ المتوجهينَ إلى الموتِ إلا الدموعَ المتلألئةَ من أعينهما وبعضَ البسكويت والحلوياتِ التي يحملانِها لحاجتهما.
– المحور الثالث: قضايا ومواقفيرفعها أوهانس باشا
* أوهانس باشا ولبنان
يُشيدُ المتصرفُ بالأمنِ والهدوءِ اللذين كانا مستتبين “في لبنان أكثر منه في الولاية” المجاورة. ويشدّدُ على تضامنِه مع اللبنانيين إزاءَ “قلة” تعاطفِه مع التحالفِ الألمانيِّ العثمانيِّ، وعلى إخلاص اللبنانيين، قادةً وسياسيين ورجالَ دين، دروزاً ومسيحيين، للسلطان، وتردادِهم في معرضِ أحاديثهم معه: “الله يُسعد (الأوروبيين)… ويبعدُهم عنّا”، نريدُ الحمايةَ ولكن لا نريدُ الخضوعَ لهم. وقد تجلّى هذا الإخلاص برضى اللبنانيين بوضعهم القائم “تمام الرضى”، وهذا يعني انهم مقتنعون “بكلِّ طيبِ خاطرٍ في البقاءِ إلى ما لا نهاية على هذا الوضع”. ولِمَ لا، فقد تمكّن لبنان “خلال نحوِ خمسة وخمسينَ عاماً من تحقيقِ “سَبْقٍ” على المناطق المجاورة”.
وينفي وجودَ أيِّ نزعةٍ انفصاليةٍ “لا من حيثُ الشكلُ ولا من حيثُ المضمونُ” في البرامجِ المطلبيةِ الإصلاحيةِ الصادرةِ عن لبنانيّي باريس أو القاهرة أو أميركا؛ وبالتالي فدعاةُ الاستقلالِ اللبنانيِّ من بينِ هؤلاء هم من الذين درسوا في الجامعاتِ الغربية، وهم بالتأكيد لبنانيون مسيحيون، يقيمون خارجَ لبنان ولا يطالبونَ إلا بمطالبَ “ذاتِ طابعٍ وطنيٍّ علمانيٍّ وبعيدةٍ كلَّ البعدِ عن المطالب الطائفية”. “فالجمعياتُ التي يُبلَّغُ عن دسائسِها هي كلُّها تقريباً سورية، وليس ثمة إلا جمعيةٌ واحدةٌ لبنانيةٌ هي جمعيةُ نهضة لبنان”، إلا أنه لا يمكنُ وصفَها بالهدّامةِ لأنّ برنامجَها الإصلاحيَّ يستحيلُ “العثورُ فيه على عناصرَ اتهامٍ تتعلق بالخيانةِ العظمى”.
* أوهانس باشا وجمال باشا
حاول جمال باشا منذ استقرارِه بدمشق في 5 كانون الأول 1914 الهيمنةَ على المتصرفِ “المستقلِ ذاتياً” واستبدالَ سلطتِه بسلطةٍ وثيقةٍ لصيقةٍ به. فأرسل له أمراً بعدمِ القيامِ بأيِّ تعيينٍ أو إقالةٍ أو نقلٍ للموظفين قبل التشاورِ مسبقاً مع القيادةِ العسكرية. فتجرّأ أوهانس باشا على الردِّ بأنّ الخلافَ بينه وبين جمال باشا هو على طبيعةِ الطريقةِ الواجبِ تطبيقُها تجاه اللبنانيين لبلوغِ الهدفِ المشترك، ألا وهو أن يجعلا منهم “رعايا مخلصين للسلطنة”.
وإلى جانبِ هذا النموذجِ من العلاقات التي شابها التوترُ وأعاقها الظلم يقدم أوهانس باشا صورةً سوداوية قاسية عن جمال باشا. فيتوقف عند أحكامِ إعدام “قابلةٍ للمناقشة” من وجهةِ نظرٍ سياسية، لكنَّ شرعيتَهاِ القانونيةِ أمرٌ “أكثرَ من مشكوكٍ فيه”. ولا يجد بالتالي تبريراً واحداً لإعدامِ لبنانيي المتصرفيةٍ المستقلةٍ، الذين لم يشاركوا في أيِّ مؤامرةٍ ضد الحكومةِ أو ضد جمال باشا بالذات، غير الظلم والاستبداد الصادرين عن جمال باشا، الذي “ادّعى أنه ما استطاع، تحت طائلةِ الإساءةِ إلى أحكامِ الإسلامِ وأفكارِ حزبه” أن يشنقَ “عدداً ضخماً من السوريين وهم بأكثريتهم الغالبةِ مسلمون من دون أن يُنزلَ الأذى بالمسيحيين”. فهل هناك أسوأُ من هذا المنطق؟
يعلّق أوهانس باشا بالقول: لقد كان هناك بالأمسِ القريبِ طاغيةٌ واحدٌ (عبد الحميد الثاني) في تركيا، أما في زماني “فأصبحوا ثلاثة (طلعت وأنور وجمال)”.
* أوهانس والحرب العالمية الأولى
اعتقد أوهانس باشا أنّ جمالاً لم يكن راغباً في خوضِ غمارِ الحرب، لكنّ الأمر انتهى به مع الأكثريةِ الحاكمة إلى الوقوعِ “تحت تأثيرِ السرابِ الألماني”. وذكر، بعد التعاطي مع قائد الجيش العثماني الرابع، أنّ هذا الأخيرَ كان ينتظر “بمنتهى الجديّة” أن “يفتحَ مصر”، ويعِدُ نفسَه “مسبقاً بمراتبِ الشرفِ العليا وبالغنائمَ” التي تنتظره. وكان على قناعةٍ بأنّ حالةَ الحربِ قد تسمحُ له “بتذوق كلِّ المباهج التي وفّرتْها لطموحه النَّهِمِ السلطةُ المطلقةُ المخوّلُ بها”.
وظنّ أوهانس باشا أيضاً أنّ اشتراكَ تركيا في الحرب كان “بدافعٍ من جنونِ قادتِها الإجراميِّ ضدَّ الدولِ الغربيةِ الحاميةِ لجبلِ لبنان”، وبدفع من ألمانيا التي وضعتِ السلطنةَ أمام الأمر الواقعِ بعد هجومِ الأميرالِ الألمانيِّ سوشون Souchonعلى الأسطولِ الروسيّ في المضائق التركية. وهكذا “قُضيَ الأمرُ وباتتِ الحربُ محتمةً لا مفرَّ منها”. وأضحتِ الدولة أداةً استعملها الألمان واستغلّوها بدونِ رادعٍ، وبلا رحمة.
وخَلَصَ الى الاعتقاد بأنّ حكومةَ السلطنةِ لم تُقدّرْ نتائجَ عملِها، وأنّ “المخيفِ أن تبقى تركيا، التي ستخرجُ من الحربِ خائرةَ القوى إلى أقصى حدٍّ، تحتَ رحمةِ المنتصِرِ أيّاً يكن هذا المنتصِر. فكأنّه بهذا الكلامِ يريد القول إنه يفضّلُ بقاءَ السلطنةِ على الحياد، لأنّ انتصارَها يُفقدُ لبنانَ امتيازَه، وهزيمتَها تزيلُ ظلَّها عنه. ولكن انتهى الأمرُ ولم يعدْ ينفعُ أيّ كلام.
* المجاعة
صحيح أن المذكراتِ لا تبحث في هذا الموضوع، وأنّ المقدمةَ تشير إلى انقسام المؤرخين بين من يتهم العثمانيين ببذل ما في وسعِهم لتجويعِ اللبنانيين، ومن يدين الحصارَ البحريَّ الذي فرضتْه الأساطيلُ الحليفة.
وعلى الرغم من هذا التوضيحِ يُرجِع أوهانس باشا الأسبابَ إلى عاملين اثنين:
الأول: يحمّل الحكومةَ الاتحاديةَ مسؤوليةَ “تدميرِ لبنان والقضاءِ من طريقِ الجوعِ على قسمٍ كبيرٍ من سكانه”، بفعل سياستها المتهورة وعملياتِ الاحتكارِ التي نظّمها الفريقُ الموالي للمعسكرِ العثمانيِّ مع مرابينَ لبنانيينَ وأتراكٍ.
والثاني: يُلقي على الألمان تبعات الأوضاعِ التي آل إليها جبل لبنان بالاستناد إلى الكلامِ الذي سَمِعَه من ضابطٍ عثمانيٍّ يقول أنّهم يريدون “قلبَ لبنان رأساً على عقبٍ”.
* المسألة الأرمنية
إنّ قضيةَ الأرمنِ هي قضيةُ “المذكّرات” الأساسُ، تناولها أوهانس باشا من زاويةِ المعنيِّ بالموضوع، وأثار فيها جملة مواضيعَ منها:
· القتل جزاء الأمانة والإخلاص
عزّ عليه أن يرى الحكومةَ العثمانيةَ تُخوّنُ موظفيها وجنودَها، الذين خدموا بإخلاصٍ أو خاطروا بأرواحِهم، لأنّهم أرمن وحسب، غيرَ آبهةٍ بتضحياتِهم، متسائلاً ألا تشكلُ سنواتُ الخدمةِ الطويلةِ ضمانةً كافيةً للعبورِ إلى شطِّ الأمان؟ وقد جاء الجواب: “لقد خان أخوتكم. “فأنتم جميعاً مشتبهٌ فيكم”[11].
وتحت شعار”النقل لا الترحيل” و”عدم تجزئة العائلات”، “وصون شرف الغالبية العظمى من السكان (الأرمن) وصيتهم الحسن”، قصمت الحكومة الاتحادية ظهر شعب بأكمله. وسقط فعل التورية والمراوغة مع تسطير الحكومة الاتحادية أوامر صارمة إلى إقليم دير الزور جاء فيها: “لديكم العديدُ من الأرمن اقتلوا منهم قدرَ ما تستطيعون”. فسارع الحاكم “صالح زكي”، إلى “ذبحِ طفلٍ بيدِه بالذات”، وحضَّ الجمعَ على الاقتداءِ به.
وعلى المستوى الشخصيِّ أعلنَ أوهانس باشا وفاءَه للعثمانيين مراراً. وأخذ عليه جورج بيكو، أنه “ظلّ خادماً متفانياً لعبد الحميد أثناء المجازر المرتكبة بحق أبناء دينه”. لقد كانت قناعاتُه تصبُّ في خانةِ خدمةِ سيدِه السلطانِ بكل أمانة، واضعاً نُصْبَ عينيه جعلَ اللبنانيين “رعايا مخلصين للسلطنة”.
تهمة الخيانة
اتهم الأتراكُ الأرمن بالخيانة، وصبّوا نارَ جامِهم وأحقادِهم وضغائنِهم عليهم. فردّ أوهانس باشا أنّ الذين خانوا الأتراكَ “هم مسلمو كردستان والجزيرة العربية” وليس الأرمن، وأنّ تصرفاتِ الأتراكِ تؤكد “الطابعَ التعصبيَّ”، “المعاديَ للمسيحية”. واستطرد قائلاً: “كان في ميسورِ الكثيراتِ من الأرمنياتِ أن تحافظَ بعضُهنّ على حياتِهن … لو أنهن أنكرن، كما تمّت دعوتُهنّ الى ذلك، دينَ المسيح”.
“إنّ تهمةَ الخيانة لم تكن إلا نميمةً وذريعةً”، وغيرَ صحيحة برأي أوهانس باشا، ولكن ما كان صحيحاً هو الانتقامُ الأعمى الذي أصابَ بلا محاكمةٍ، ومن دون تمييزٍ، شعباً بأسره.
أيها السادة
لن أتوقفَ في نهاية هذه المداخلة عند الملاحظات السلبية أو الأخطاء التي تعلقُ عادة بأيِّ كتابٍ بسبب الطبعِ والطباعةِ وما شابه، وإنما سأكتفي بالإشارةِ إلى تلك المتعلقةِ بالمصطلحاتِ والاسماء فقط، وفي ما يلي بعض النماذج:
المصطلح او الاسم في النسخة العربية |
الصفحة |
المصطلح كما هو وارد في النصخة الفرنسية |
الصفحة |
المصطلح المعتمد في العربية |
نائب حاكم مقاطعة |
229 |
Sous-gouverneur |
125 |
وكيل أو نائب المتصرف |
رجال الدرك، ميليشيا، أو الدرك اللبناني؛ رجال الشرطة؛ ميليشيا الدرك |
93 و94 و96 و98 و118 |
Gendarmerie, gendarmes |
51 56 |
الجندرمة، العسكر، الجنود، الجند |
الحرس الشعبي،ميليشيا |
29 و54 |
milice |
16 |
العسكر، الجندرمة |
المستشارون |
95 و98 و260 |
conseillers |
54 |
عضو اداري، نائب |
القسطنطينية |
17 و79 و81 و290 |
Constantinople |
الآستانة، العاصمة العثمانية |
|
رؤساء القضاء |
94 |
Chefs de district |
51 |
قائمقامون |
مدير قضاء |
144 |
Mudir du canton |
80 |
مدير ناحية أو قائمقام للقضاء |
حكومة الشبان الأتراك |
14، 16، 31 |
Gouvernement jeune-turc |
حكومة الاتحاد والترقي، تركيا الفتاة |
|
حاكم بيروت العام |
129 و198 |
Gouverneur général de Beyrouth |
70 |
والي |
المقاطعات الست |
196 |
لا يوجد مقاطعات ست بل 7 أقضية |
||
بويري |
158 |
Boueri |
72 |
بواري |
هاكوب باليان |
224 |
Babikian |
106 |
هاكوب بابكيان |
عزاوي |
271 |
Fouad Azawi |
148 |
فؤاد عازوري |
نقولا غصن (ماروني) |
76 |
Nicolas Ghosn, maronite |
38 |
روم أورثوذكس |
غراندور السعد |
76 |
Grandour El-Saad |
36 |
غندور السعد |
نائب ملك مصر |
228 |
منصب غير موجود |
||
استعمال (فعل هيّج) |
30 و31 |
؟ |
_________________________________
[1] مذكرات أوهانس باشا قيومجيان، متصرف جبل لبنان، 1913، 1915، ترجمة جوزف كالوستيان، دار البيروني، بيروت، 2015.
نشرت هذه المذكرات برعاية وعناية خاصتين من المؤرخة الدكتورة كريستين بابكيان عساف، عميدة كلية الآداب والعلوم الانسانية في جامعة القديس يوسف – بيروت.
[2] انتهت ولاية يوسف باشا في 8 تموز 1912 وشغر المنصب مذاك حتى تاريخ تعيين أوهانس باشا في 23 كانون الأول 1912. مرّ على نهاية ولاية المتصرف برهة من الزمن توازي عداً 168 يوماً أو خمسة أشهر ونصف الشهر.
[3] هم: ابرهيم صوصه (روم كاثوليك) وإرام أفندي (أرمن كاثوليك) وسينابيان أفندي (أرمن كاثوليك) ويوسف سابا (روم كاثوليك)؛ مذكرات أوهانس باشا، ص 17؛ و
Docteur Zanni, Docteur Colonel Youssef Zeki Bey, Nasry Barkache, M. de Grati. Adel Ismail, Documents Diplomatiques, T. 18, p.p. 400-404, et T.19, p. 85.
[4] أوجب نظام المتصرفية ان يكون المتصرف مسيحياً فقط، لكنّ التطبيق العملي جاء باتجاه اختيار متصرفين كاثوليك.
[5] وُلد محمد طلعت (1874 – 1921) في مدينة اديرنة Edirneالعثمانية. عمل موظفاً في مكتب تلغراف ثم ضابط في أدارة البريد. أعتقل سنة 1893 بتهم سياسية وبعد نجاح ثورة تركيا الفتاة سنة 1908 عين نائباً في البرلمان العثماني، ومن ثم وزيراً للبريد وووزيراً للداخلية (1913- 1917)، فعضوا في اللجنة المركزية. أصبح صدرا أعظم للدولة العثمانية بين 1917 و1918. بعد نهاية الحرب العالمية الاولى وهزيمة تركيا فرّ الى برلين حيث أغتاله ناشط أرمني يدعى سوغومون تهليريان soghomon Tehlirianسنة 1921.
[6]أمضى ليلته في الباخرة وفي صباح اليوم التالي نزل البر. البرق، العدد 210، تاريخ 23 كانون الثاني 1913؛ ومجلة الآثار، ج 8، شباط 1913، ص 314؛ ولحد خاطر، عهد المتصرفين في لبنان، 1861-1918، منشورات الجامعة اللبنانية، بيروت، 1967، ص 192.
[7] أُعطي إجازة لمدة ثلاثة أشهر، فرحل عن لبنان بدون عودة.
[8] . كان المحاسبجي والمتصرّف الشخصين الوحيدين المعيّنين في جبل لبنان من قبل الآستانة 1915.
[9] كان من المفترض أن تنتهي ولايته في 9 تموز 1869.
[10] “الواقعة على جبل طوروس”، للالتحاق بـ”قطار الأناضول”، مذكرات أوهانس باشا قيومجيان، ص 286 و306.
[11] كأنّه بذلك يذكّرنا بقصة الذئب والحمل للأديب الفرنسي Jean de LA FONTAINE.
*****
(*) ألقبت في الندوة حول كتاب “مذكرات أوهانس باشا قيومجيان” ضمن المهرجان اللبناني للكتاب (7-22 مارس)