إيناس مخايل: لا تأثير أكبر من الكلمة الصادقة

منار علي حسن

بدأت الشاعرة إيناس مخايل كتابة الشعر في عمر المراهقة، فعكس ديوانها الأول «نار لا تنطفئ» guilaf-inas(1998) تناقضات روحها الثائرة والمتمردة وتميز أسلوبها بالبساطة مع درجة كبيرة من العمق، من ثم دخلت بقوة في لعبة الكتابة، فطوّرت موهبتها وعمقتها بالثقافة، وجاء كتابها الثاني «هكذا نملك الدنيا» (2002)، نابضاً بتجارب شاعرة شابة غاصت في عمق عصرها واستنبطت منه لغة تعبير مزجت بين الشكل والمضمون المتقد بالأحلام والتطلعات، واستكملت في ديوانها الثالث «رسالة فرح» (2009)، الدعوة إلى حب الحياة وعيشها بكل ما أوتيت من أمل بالمستقبل الذي لا بد من أن يكون أفضل من الحاضر، رغم تراكمات الأحزان. القاسم المشترك بين الدواوين الثلاثة أن قصائدها مستنبطة من روح الشاعرة وغير مقيدة بمدرسة شعرية او بتيار شعري معين.

حول ديوانها الجديد وتجربتها في مجال الكتابة وتطلعاتها كان الحوار التالي معها:

لماذا العنوان «نبدأ من جديد»؟

هذه العبارة ترد على الألسنة عند الانهزام أو الوقوع في أي صعوبة أو ألم، ذلك أن النفس الحرة والمواجهة ترفض وتنتفض وتقف من جديد. بالنسبة إلي، شعرت بأن الجو على الصعيدين المحلي والعام يتطلب هذا النهوض والبداية من جديد، لكن من دون إنكار الثوابت الخيّرة بل تكون هي الركيزة للانطلاقة.

كيف نبدأ من جديد؟

هذا السؤال أجبت عنه في قصيدة «أفرح لأحزاني»، في الديوان، أقول فيها: أتجرّع الألم أكسير حياة/ أتبرّج، أشرق من نافذه أوجاعي/ أتلوى بين ما أريد وارغب، وما أنا عليه./ لا أضعف، أمشي واثقة،/ أن ثمة أهدافاً دربها الآلام./ أفرح لأحزاني هي من يقوّيني./ أبسط يديّ لدنيا احبّها،/ لا أتجرأ على إغلاق ابوابي في وجهها./ أحيي العصافير في الصباح/ ألوّن الشمس بألوانها الدافئة./أبكي لأيامي الراحلة./ أضحك لعمر ينقص ويزيد في آن معاً/ أنا غدٌ لا يرى./ أنا صوت يهدر في صدى المدى./ أنفض كل ما كان، غباراً، دخاناً،/ سحابة تعلو جوَّها وتتبخّر،/ أنتهي معها هناك في البعيد./ وأبدأ من جديد.

تركزين في ديوانك على الثوابت، فهل تشعرين أن جيل الشباب الذي تنتمين إليه مهدد باقتلاعه من ثوابته؟

بالطبع، نحن مستهدفون، عبر إلغاء الثوابت واستبدالها بشعارات ومبادئ جديدة تخترق المجتمعات متنكرة بالحرية والعلم والعلمنة، بينما هي بعيدة عن الحرية، وفيها جهل وعدم محبة الآخر واستيعابه، وفهم العلمنة بأنها فوارق وتعصّب وانحياز، في حين هي اندماج واتحاد.

وحده الكنز الثقافي الذي يعود إلى آلاف السنين مرجعيتنا ومنه انطلاقتنا، لا يمكن أن نبدأ من لاشيء، كلبنانية تعلمت من تاريخ هذه الأرض وحضارتها الضاربة جذورها في الزمن البعيد كيف نحول الصلب إلى ليّن وكيف ننفتح على الآخر، ونتعايش معه، وكيف يحب بعضنا بعضاً، كل ذلك موجود في أرثنا القديم، ومن روحيته يجب أن نستلهم كيف نبدأ من جديد وننسى أوجاع الحروب التي توالت على هذه الأرض.

ما أثر التكنولوجيا التي بتنا ندوزن عليها وقع حياتنا؟

التكنولوجيا، تحديداً الإنترنت، تقضي على خصوصية الشعوب وعيش الحميمية بين أفراد الوطن الواحد، اليوم كل شيء مباح، بعدما غابت الحميمية وحلت محلها شعارات غريبة عنا.

في الديوان تكرار لكلمة الحرية، فماذا تعني لك؟

أنا ابنة تاريخ من العيش المشترك والمعنى الحقيقي للحرية والمحبة والتضامن والحوار والانفتاح على الآخر، طبيعي أن نمرّ بمآسٍ وحروب، لكن المهم أن نبدأ من جديد وفق أسس تبيّن لنا أخطاءنا وتجعلنا نبني مستقبلنا بشكل صحيح، وألا نجعل مجالا للآخرين بالتفكير بمستقبلنا، وألا تكون ثمة توجيهات مسبقة.inas mkhael
الحرية هي متنفس الإنسان الحر الذي يعرف كيف يضحي ويعطي من ذاته لأنه غير مقيد بشروط، ولا يرضخ إلا لضميره وثوابته التي تربطه بمجتمعه وبيئته وبالمجتمعات الأخرى. غير ذلك تكون الحرية ادعاء.

تتمحور قصائدك حول جملة من القضايا الوطنية، هل يمكن تصنيفها بأنها قصائد وطنية؟

بالنسبة إلي، القصيدة الوطنية هي التي تعبر عن الوجع الوطني، سئل مرة المفكر فالارنه حول تحديده للشعر فأجاب: «الشعر هو الأثر الذي يحدثه»، والقصيدة الوطنية هي الأثر الوطني المتروك فينا أو الذي نودّ تركه لدى الآخرين. من هنا استطيع القول إنني أكتب قصيدة وطنية.

تستوحين من الطبيعة صوراً شعرية للتعبير عن أحلامك وأفكارك، ما الذي أدى إلى اندماجك الكامل معها؟

أنا متعلقة بجذوري اللبنانية، بلبنان 10452 كلم مربع بكل جمالياته وتنوعه الحضاري ومشاهده الطبيعية المختلفة بين سهل وجبل وبحر. وقد استوحيت من هذه الطبيعة بالذات صوراً شعرية في قصائدي، وعكستها على التعبير النفسي والروحي عندي، باعتبار أن الإنسان يشبه الطبيعة، من هنا دور الشباب اللبناني، برأيي، أكبر من غيرهم في بلدان أخرى، لأن منشأهم وطبيعتهم يختلفان عن بيئة الآخرين، لذا حاولت في هذا الديوان، كما في دواويني السابقة، التركيز على هذه الأفكار وهذه الصور خدمة لهذا الهدف.

إذاً في قصائدك ثمة اتحاد بين الإنسان الوطن.

بالطبع، يضيع الوطن عندما يضعف الإنسان فيه وينهزم ولا يعرف كيف يبدأ من جديد، المهم بناء النفس والروح لنبني الوطن الحر السيّد المستقل، لا يمكن لغير الحر أن يبني وطناً حراً، تبدأ القصة بالمواطنية، يقول الإمام علي: «كما تكونون يولى عليكم»، علينا أن نكون في حجم لبنان الرسالة، ولا شك في أن ذلك يستلزم الكثير من الجهد والعمل على بناء الإنسان أولا.

ما موقع الحلم في قصائدك؟

يقول شارل بروتون إن الشعر هو تسجيل الإيحاءات التي يحملها الحلم والذاكرة المستخدمة لا الخيال الشاعري. الحلم عند الشاعر أحد أنواع الوعي وعلاقة المرئي وغير المرئي التي تنعكس بصور ودلائل يصعب على الشاعر تبريرها أو تفسيرها، فينزلها كما هي، ويترك للقارئ استنتاج أو استنباط أي صورة أو موقف من الحلم الذي شعر به، لأن الحلم يقتحم حميمية الإنسان، والشعر هو حميمية ولا شيء غير الحميمية، والشاعر المتوقد بالأحلام لا حدود لقصائده، هنا تكمن أهمية الإبداع.

لكن كيف يشارك الشاعر القارئ بحميميته؟

إذا لم يشارك الشاعر القارئ بحميميته يفشل، لأن الحميمية هي جواز مرور الشاعر إلى القارئ، ذلك أن الصدق في الكتابة والمشاعر يحسه القارئ تلقائياً، والشاعر هنا يشبه الممثل الجيد الذي يتميز عن غيره من الممثلين بصدقه. هكذا هو الشعر، تأثير وحميمية وتوقد الضمير وتناغم الروح مع النفس.

تتردد في الديوان عبارة السلام، فكيف يمكن الوصول إليه وسط الأمواج الهائجة من كل حدب وصوب؟

للسلام مفهومان، خارجي يطال الوطن والشعوب، ونحن عانينا كثيراً من الحرب وفقدناه، وداخلي، يعني الإنسان المسالم المنفتح، هذا ما أراهن عليه في المستقبل، ويمكن الوصول إلى كليهما ببناء الإنسان الراقي في مشاعره ونبله ويعرف هدفه على الأرض.

للأسف، يدور الصراع اليوم حول تدمير الإنسان لتستبد فينا قوى الظلام والشر، من هنا علينا بناء إنسان يكون سيد نفسه. يقول المثل اللبناني: «فلاح مكفي سلطان مخفي»، إذا كنا أسياداً على أنفسنا نصل إلى السلام. طموح الإنسان اليوم لا حدود له، وبما أنه لا يستطيع تحقيقه، يعيش في نزاع مع نفسه ومع الآخرين، ولا يصل إلى اي هدف. ليعمل كل شخص ما عليه فعله بضمير حي، هذا هو السلام.
ماذا تعني المرآة بالنسبة إليك، وهل قصائدك مرآة لشخصيتك؟

كوني امرأة  تعني لي المرآة الكثير، فهي تعكس صورتي كامرأة تعشق الموضة وتسعى إلى الإطلالة بأفضل شكل، اعتبر جمال المرأة وعلاقتها بمرآتها إحدى طرق تقبل الآخر، وفي بعض الأحيان، يسيطر نوع من الباطنية على علاقة المرأة والمرآة، عندما تكون صورتها منكسرة وتحاول إخفاء التعب بالتبرج والظهور بمظهر قوة. إذا ثمة علاقة داخلية وخارجية مع المرآة.

نفهم أن ازدواجية معينة تسيطر على علاقة المرأة بالمرآة أو بالأحرى علاقتك أنتِ بالمرآة.

هذا ما قصدته بالضبط في قصيدتي «أمام المرآة»، وقلت فيها: «أيعقل أن أكون امرأتين،/ واحدة أراها، وأخرى تتوارى خلف صورتي./ الأولى تأخذني إلى حواء التفاحة،/ امرأة الرضوخ المتنكر، المتمرد./ والثانية السلطانة امرأة المواجهة والطهارة/ بقناعة وطاعة/ الأولى خطيئتها أنها لم تسمع الذي عرفت./ والثانية مباركة آمنت بمن لم تعرف/ الأولى تثمر للموت./ والثانية أخذت من روح العلي…

موعد، أمل، شعاع، فرح، حزن… مشاعر تنبض بها القصائد فهل هي مستقاة من تجاربك الشخصية في الحياة؟

كل تجربة نمر بها أو يمرّ بها المحيطون بنا تترك أثراً فينا، بشكل مباشر أو غير مباشر، نعيد رسمها في القصيدة، لا شك في أن الانفعال مع المشهد أو مع التجربة يبتكر دلائل جديدة يشار إليها بصور شعرية معينة قد تأتي حسب الدال والمدلول.

بكل شفافية أقول إن التجارب هي التي تحرك قلمي، إذا لم يحركني إحساسي في كتابة القصيدة لا يمكنني نقله إلى القارئ. الشعر هو مرآة شفافة لمشاعري وليس بالضرورة أن تكون معاناة وألماً بل أحياناً يحرك الفرح قلمي فأرسم قصائد مبللة بدموع السعادة، المهم الانفعال سواء كان سلبياً أو إيجابياً.

تستعملين في قصائدك عبارات متضادة على غرار «أحيا بلا حياتي»، «حبيبان لا يلتقيان»، فهل تقصدين التعبير بهذا الأسلوب؟

الشعر الحر محصلة إيقاعية وتوازن إيقاعي ومتجانسات صوتية وتناسقات، قصيدة النثر مبنية على المتناقضات في الشكل والجوهر، بالنسبة إلي، تحرك المشاعر التي تنتابني في لحظة كتابة الشعر التقنية، من هنا يختلف الأسلوب في قصائدي، وفق تناغم روحي مع الكلمة المكتوبة، وهذا ما اسميه روح الشعر، ثم الروح حرية، من هنا يرى البعض في نصوصي أنها شاعرية والبعض الآخر نثرية.

في بعض القصائد اعتمدت التكرار والتناقضات التي أتت عفوية مع نتاج روحي، وقد تأتي كل مرة بحلة جديدة، لا التزام مسبقاً لها بأي قانون في الكتابة، بل هي حرة طليقة. لا تأثير اكبر من الكلمة الصادقة، فهي ترتدي الثوب الذي تريده وتأتي كما تريد.

نبذة

للشاعرة إيناس مخايل حضور على الساحة الأدبية، فقد شاركت في أمسيات شعرية وفي محاضرات في أنحاء لبنان، كذلك شاركت في أمسية شعرية في كرواتيا مع أدباء وشعراء فرنكوفونيين وترجمت بعض قصائدها إلى الفرنسية، وفي أستراليا أيضاً حيث أجرت حوارات مع مغتربين لبنانيين، أذيعت على أثير إذاعة لبنان، ومنها انطلقت في مجال البرامج الإذاعية، وقدمت برنامج «ضيعنا» أجرت خلاله مسحاً شاملا لـ 425 ضيعة لبنانية

اترك رد