الكاتب والإعلامي بلال حسن التل
مثيرة للقلق الطريقة التي يتعامل بها بعضنا مع خطر التكفير، فهذا البعض وجد في القضية وسيلة للتكسب، فصرنا نسمع كل يوم عن تشكيل جمعية، أو منظمة، أو مبادرة لمحاربة الإرهاب، كما صرنا نسمع كل يوم عن مؤتمر «بارد» يعقد في فندق فاره، يتحدث عن التكفير. يشارك فيه كل الناس إلا أصحاب الاختصاص، وينتهي مفعوله بمجرد الخروج من القاعة الفارهة، وبين هؤلاء وأولئك صار البعض يسعى لتمرير أجندات منها ما يسعى لتشويه الإسلام، ومنها ما يسعى للتحريض على المتدينين، ومنها ما يريد أن يتسلل إلى مناهجنا التعليمية لتحريفها وفق هواه، وجعلها خالية من أي إشارة إلى الإسلام وتعاليمه.
كما وجد البعض الآخر في القضية باباً من أبواب البحث عن حضور إعلامي، لذلك كثر اللغط والتنظير حول التكفير والإرهاب، دون أن ندرك أن معركتنا مع التطرف والإرهاب والتكفير طويلة، فتيار التطرف والإرهاب والتكفير ليس غَضَّ الإهاب لين العريكة، بل هو على العكس من ذلك تيار يضم في صفوفه مجاميع من الشباب المدجج بالرؤى والقناعات الفكرية والعقدية، مشحون بالأحلام، المدعوم بالمال والسلاح، وببعض الدول، وفوق ذلك فإن لديه خبرات قتالية، وإعلامية، واقتصادية، وسياسية قادرة على إدارة معركتها، فنحن لا نقاتل مجموعة «دراويش» خرجوا لإقامة حكم الله في الأرض. فهذا تبسيط ساذج لخطر داهم، يمتلك قدرات كبيرة، أهمها القناعات الفكرية التي يسيطر من خلالها على شبابنا، وهذه حقيقة يجب أن نعترف بها ونتعامل على أساسها مع هذا الخطر، لأن معرفتنا بعدونا أول خطوات التأسيس لانتصارنا عليه.
ومثلما هي معركتنا مع الإرهاب والتكفير طويلة، فإنها متشعبة تأخذ أشكالاً عديدة أقلها خطراً الشكل العسكري، وأخطرها الشكل الفكري، لأنه هو الذي يخطف عقول شبابنا ويحولهم إلى انتحاريين وقنابل بشرية تقتل ذاتها، وأهلها، وتفجر مقدرات أمتها. لذلك فإنه مثلما أن المعركة العسكرية تحتاج إلى استراتيجيات وخطط وتوزيع أدوار ومهام، وتنوع في الأسلحة والأدوات، فإن المعركة الفكرية مع التكفير تحتاج إلى ذلك وبدقة أكثر، وهو ما لم يتوفر لمعركتنا معه حتى الآن، حيث يختلط «الهرج بالمرج»، و«الحابل بالنابل» و«الغث بالسمين». وهذا خطر حقيقي من شأنه أن يزيغ الأبصار عن الطريق، ويصم الآذان عن سماع الحقيقة، ويجعل للتضليل والاختراق منفذاً..
لذلك لابد من وقفة مراجعة نتذكر معها أنه لابد من أن يتصدى للأمر أهل الاختصاص وأولو العزم، فالفتوى في الإسلام ليست صنعه من لاصنعة له، كما نرى الآن عبر وسائل الإعلام المرئي والمسموع والمقروء، التي تضج بالمتحدثين عن الإسلام والفقه الإسلامي والفكر الإسلامي، وغالبية هذا الذي نسمعه غث يضيع فيه السمين، وهنا مكمن الخطر الذي يجب أن ننتبه إليه، فندفع إلى الصفوف الأولى من المعركة العلماء الأجلاء من أهل الاختصاص، ممن توفرت فيهم الشروط الدقيقة التي وضعها العلماء لمن يجوز لهم الإفتاء، ومع العلماء الأجلاء من أهل الفتوى، علينا أن نقدم أيضاً الثقات من أهل الفكر مهما كان عددهم قليلاً، فالعبرة ليست بالعدد ولكن بالقدرة والأثر، فالأمر أمر عقيدة ودين وبناء قناعات، فلا يجوز التساهل فيه، لذلك فإن على أصحاب القرار، خاصة في المؤسسات الإعلامية أن يقتنعوا بأن تقديم برنامج فقهي، أو فكري ليس بسهولة إعداد وتقديم برنامج طبخ أو طبخة سياسية، فهذه قضية يجب الانتباه لها..
وهنا نحب أن نقول: إنه مثلما لا يجوز لميكانيكي السيارات فتح عيادة طب بشري، فإنه لا يجوز أن يتصدى لعلاج قضية خطيرة بمستوى قضية التكفير كل من «هبّ ودب»، ولا يجوز أن يفتي باسم الإسلام كل عابر سبيل، ولا يجوز أن تعالج قضايا خطيرة كقضية الإرهاب والتكفير بمهرجانات «هرجٌ ومرج»، ولا يجوز أن نتعامل معها على أساس انطباعات السائح الذي تبهره أضواء المدن عن حقيقتها، فيظن أن كل أهل المدينة سعداء بهذه الأضواء، فليست كل باريس شارع الشانزليزيه، ففي باريس أحياء فقيرة وأناس مهمشون ممن لا تقع عليهم عيون السائح، فلا يفهم حقيقة المدينة، وهو ما لاتريده في تعاملنا مع موجة التكفير، التي لا يجوز أن نتعامل معها دون فهم فنخدع عنها، كما يخدع السائح عن حقيقة المدن فنظل نتعامل معها على ضوء مقالات إنشائية يكتب بعضها كل من قرأ خبراً أو سمعه، فصار يحسب علينا خبيراً في شؤون الجماعات الإسلامية، فإن من شأن ذلك كله التشويش على المعركة الحقيقية وجرها إلى غير ميدانها، مما يعني المزيد من التمكين للتكفيريين لا سمح الله.
معركتنا مع التكفير وإرهابه معركة استراتيجيات واختصاصات. وليست حديث مجالس نتسامر بها، لذلك فإن المطلوب أن ننتقل من مرحلة الوصف والتشخيص إلى مرحلة العلاج، وهو أول الجد.. وإن لم نأخذ الأمر على محمل الجد، أضعنا الطريق، وهو ما لانريده. لذلك ندعو إلى الهدوء والابتعاد عن الصخب والمزايدات وتقديم أهل الاختصاص من علماء ومفكرين.
*****
(*) رئيس المركز الأردني للدراسات والمعلومات وناشر وصاحب جريدة “اللواء” الأردنية.