”صباح“.. في شمسها كما في رمسها

الكاتب اللبناني أحمد منصور

logoلبنان القطعة التي أهدتها السماء إلى الأرض وكأنّها صورة أُخِذَتْ في جُرمنا من بعيد البعيد، ودحتها السماء على فضّة الأبيض المتوسط في خدّهِ المشرقي الأيمن وسَمَّرَتْه.

لبنان غسّان التويني، الأخوين رحباني، سعيد عقل، كمال الصليبي، جوزف حرب، جورج جرداق، وديع الصافي، صباح، مارون كرم، عفيف أبو فرّاج، عباس أبو صالح، وليد غلمية، السيد محمد حسين فضل الله، منح الصلح، هاني فحص.. لبنان هذا، انكمش حجمهُ الضوئي الفكري والصوتي في مشرق الشرق على العالم، بعد تساقط هذه الكوكبة من النجوم الذين لا يتكرّرون.

نسلّط في هذه المقالة الضوء على المطربة صباح والتي غدت أسطورة، فنسأل أولاً، وبمنتهى البساطة، لماذا هي؟

ونجيب، لأنها وُلدت في حاضنة اسمها الجبل اللبناني، حميمةً لعمّها الشاعر الشعبي المعروف ”شحرور الوادي“، فكانت في جواره كالفراشة ترفرف حوله، متنقّلةً من قداديس الكنيسة التي غدت فيها حسّونتها إلى الأعراس والحفلات كذلك.

”كانت الأولى في المدرسة بالمقلوب“، هكذا قالت لي راهبة زاملتها في المدرسة نفسها. إنها كالتلميذ الفاشل في كلّ المواد ما عدا الرّسم… عقلها دوماً كانَ في صوتها، تحلم وتحلم بالنجومية على صعيد لبنان والوطن العربي والعالم، ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً. فكانت رفيقتها في ملحمتها المديدة هذه ثقتها بنفسها، وقدرتها على تنكّب كلّ ما يمكّنها بلوغ القمّة – الحلم، ولم تتوانَ في هذا المضمار حتّى عن الاستعانة بالجنرال شارل ديغول، ليسهّل لها إدراج أغانيها في الإذاعة.sabah-1

كما أنَّ محيطها القرابي المستنير، سهّلَ لها مهمّة الانتقال إلى مصر، أم الفنّ في الوطن العربي، فكان أن كتب لها الأغنيات، كبارُ مشاهير الشعراء من أمثال: بيرم التونسي، مأمون الشنّاوي، صالح جودت، حسن توفيق…. كما لحّنَ لها كبار الموسيقيّين الراسخين: زكريا أحمد، محمد القصبجي، رياض السنباطي، محمد عبد الوهاب، فريد الأطرش، محمد فوزي، بليغ حمدي، حليم الرومي، محمود الشريف…إلخ.

وشاركها بطولات أفلامها السينمائية الكثيرة، الأبرزُ بين نجوم الشاشة المصرية.. بدءاً من أنور وجدي، وامتداداً إلى فريد الأطرش ومحمد فوزي وعبد الحليم حافظ ورشدي أباظة وأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار…إلخ.

في منهجيّتها الفنيّة

هويّتها كانت تسكنها، فقد وضعت صباح في رأسها أنها خُلِقت لتكونَ فنّانة، والأولوية المطلقة لها كان الفنّ، على الرغم من الوعود ”النيسانية“ أحياناً في زيجاتها بأنّها ستتفرّغ للزوج. ولأجل ذلك، تجاوزت ”الشحرورة“ المحن الكبيرة في عائلتها وبعزم ٍفولاذي. قالت لمجلة ”الكواكب“ المصرية الشهيرة: ”أكثر من مرّة في زواجي، كان يخامرني طيف شعور بترك الفنّ، لكن سرعان ما كان يغلبه وللتو شعورٌ طاغ وفائض يحكمني بالاستمرار فيه“. وتردف في حديث إعلامي آخر لها: ”لم أصبح مطربة إلاّ بعدما تعلّمت كيفَ أعيش الكلمة التي أغنّيها.. فالحظّ قد يصنع كلّ شيء إلاّ الصوت.. الصوت هو تجسيد الرّوح“.

كما أنَّ صباح هي تجسيدٌ فصيحٌ لروح الطبيعة اللبنانية في جبالها وأرزها وسهولها وبحرها وواديها، وأفراح الناس وأتراحهم.. وفي الوطنية، وعبر الـ”يا ليل“ و”الأوف“ اللذين حرثا لبنان بطولهِ وعرضهِ من خلال هذا الصوت النحاسي الذي لا يعرف الصدأ.

كانت تعيش كما تغنّي، فقلبها على لسانها، ومالها على راحتيها، لا تعرف البخل، ولا الحسد، ولا الكراهية التي لا تنهش إلاّ صاحبها. حبّها الموجّه إلى المجتمع بسمائه (أي أغنيائه)، لم يمنعها من حبِّ أرضهِ ( أي فقرائه)، فقد استقت لتسقي. عاشت طفلةً تكبر سنونها ولا تشيخ طفولتها، وبراءتها، وحبّها للحياة، وكسر القيود التي تحدّ من طموحها وجموحها. فهي ”علمانية“ في زيجاتها (جاوزت العشر!) تتنقّل بين الأعمار، فأولُ زواج ٍلها كانَ من نجيب الشمّاس، الرجل الذي قاربت سنّهُ سنَّ والدها، وآخر زواج لها كان من شاب بعمر أحفادها (فادي لبنان).. وكان مسرح زواجها أكثر من بلدٍ عربيّ، وفي لبنان بالذات.

صباح كانت ”دونجوانة“ عصرها. هي بشكل من الأشكال تشبه بريجيت باردو، سيّدة الأنوثة في فرنسا والعالم، تلكَ التي عاشت تمثيلاً وحياةً وحباً على بداهتها، وشربت الكأس بئراً وأنضبتها، وعندما لم يبقَ شيء، تفرّغت إلى الحيوانات لتهبها مشاعرها وعاطفتها وثروتها، وتردّ عنها ظلم الإنسان.

علاقاتها ممتازةً كانت بكلّ الذين تعاملت معهم وعاشرتهم في الفنّ والحياة. يدخلون إلى قلبها عبر ابتسامتها الصباحية التي لا تخبو ولا تكبو. كانت معهم كالموج مع الشاطىء، غير أنَّ كرامتها وكبريائها لا تقبلان مسّاً من أيٍّ كان، وذلك ما حصل لها مع الصحافي المعروف سمير عطا الله، عندما شبّهَ سيرة هيفاء وهبي بمرحلة من مراحل صباح القديمة، فجنّت لسماعها بهذه المقارنة. فعرفَ الأستاذ سمير بالأمر واعتذر، فرفضت الاعتذار، وحاولَ أن يستقطع، بالتعاون مع إحدى الفضائيات، مداخلة في برنامج يعتذر فيها لصباح على الملأ عمّا قالهُ، فما قبلت.

صباح هي المطربة الأولى التي أدخلت الأغنية اللبنانية إلى المصريين متوأمَةً باللهجتين: المصرية واللبنانية. أعطت لأغنيتها بعداً عربياً واسعاً.. تأقلمت، بلْ تجذّرت في أرض الكنانة، حتى غدت هرماً غنائياً بين الأهرام الغنائية المصرية، لأنَّ قاعدة النجاح في مصر هي التميّز المفارق، بل الصارخ.. وأن تكون قمّةً كذلك، يعني، أن تكونَ مجدّداً لا مقلّداً، فالمقلّدون للحانات والأعراس والمناسبات. إنهم كالببغاوات.

أَثْرَتْ مطربتنا الراحلة المكتبة الغنائية العربية بحوالى أربعة آلاف أغنية، وهذا ليسَ رقماً بسيطاً، ما قد يضعها، بالفعل، في رأس قائمة الأوائل في ميدان الغناء على الصعيد العالمي.

والأفلام التي لعبت خلالها دور البطولة تدنو من رقم الثمانين، ناهيكَ بالمسرحيات الغنائية العشرين. كما علينا ألّا ننسى أنّها كانت سفيرة الأغنية اللبنانية عبر العالم، فغنّت في أولمبيا باريس العالمية التي غنّت فيها أمّ كلثوم، كما غنّت في بروكسل، وفي البرازيل، وفي قاعة ألبرت هول في لندن، ومسرح كارنيغي في نيويورك، ودار الأوبرا في سيدني، فضلاً عن وجودها الحيّ والمتحرّك على امتداد المدى العربي برمته. وهي لم تخذل أبداً مَن استنجد بها لإحياء حفلات يعود ريعها إلى جمعيّاتهم الخيرية والإنسانية.

العبقرية… حتّى في الوداع

جانيت فغالي التي غدت شحرورة الوادي (تيمّناً بعمّها) وشمس الشموس في بلد الأرز، وصباح في مصر التي كانت تُشرق الدّنيا ولو كانت ظلاماً عبرَ ابتسامتها التلقائية. صباح كانت أوركسترا الطبيعة اللبنانية الساحرة في صوت يطلق حدودها إلى حدود لا تعرف الحدود. كانت وجودية تعيش يومها ليومها،

ولم تتصرّف كسيدة أعمال وكدهرية، فلاقت ما لاقته في سنواتها الأخيرة التي لم تكن لترحمها ( ولاسيّما أن دولتنا الكريمة ديدنها إطفاء من يضيء الأرض ويمطر السماء). هذه الصبوحة أوصت أن يُصلّى على جثمانها في كنيسة مار جرجس، جارة جامع محمد الأمين في قلب بيروت، عروس المشرق في خافق الوحدة الوطنية.

عبر أمواج صوتها المتفرّد، المتعدّد، المرفرف على إيقاعات الدبكة اللبنانية، وعبر تدفّق الأمواج البشرية اللبنانية والعربية من صغار وكبار إلى الكنيسة حيث الصلاة على روحها، وعلى طول الطريق الممتدة إلى مثواها الأخير في بدادون.. وكأنَّ لبنان القلق المتعب ليسَ في طريقهِ إلى رمس، بلْ هو في عرس، حيث الدمعةُ تعانق البسمة والموتُ يعانق الحياة.. وما كان أجمل، من جهة أخرى، إكليل الزنبق والورد الأبيض الذي أرسلته السيّدة فيروز، سفيرتنا إلى النجوم، وتصدّر باقي الأكاليل، مميَّزاً بجملتها الوداعية الأثيرة: ”شمسُكِ لا تغيب“. إنّها إذن أخلاقية الفنّان الأصيل تجاه الفنّ الأصيل، فصباح عبر الآلاف من أغانيها وأفلامها ومسرحيّاتها باقيةٌ تماماً كبقاء الأرز في بلد الأرز.. بلد الحرف والإشعاع الحقيقي.

من كلماتها الأثيرة

”الزواج يبدأ بالحب وينتهي بشيء لا تفسير له“.
”أخذت الغناء الشعبي لأنّهُ يحمل صفاء الطبيعة ونضارة القرية“.
”أملك كلّ شيء ولا أحد يملكني“.
”أنا ناجحة لأنّني أنسى الأمس والغد ولا أعرف إلاّ الحاضر“.
”عشتُ عمري، لكنّي سيّدة أحبّ أن أحيا وأن أبدأ دوماً من جديد“.
”علّمني الفنّ الإحساس بجمال الحب والتلوّن بعشرة أشخاص“.
”الموت لا يخيفني، إنّهُ كالنوم الطويل، وأنا أؤمن أن يوم الإنسان الأخير مكتوبٌ على جبينهِ، مذ كان جنيناً في
بطنِ أمّهِ“.

من وصاياها بضمير المتكلّم

”ما تبكوا ولا تزعلوا عليّي“.
”حطّوا دبكة وأرقصوا.. بدّي رحيلي يكون يوم فرح مش يوم حزن“.
”بحبكن كثير وضلّوا تذكّروني وحبّوني دايماً“.

عبقرية صباح أيضاً في أنها خلقت طريقة جديدة في مشايعة من نحبّ، ألا وهي مشايعة روحهِ وإبداعهِ في الحياة. كأنّها لم تمت، كأن جثمانها ليس جثماناً يسير إلى لحده ِالمقفل البارد، فلله درّها على هذا الفتح الجديد الذي شاءته وجسّدتهُ والذي لن تنساه الأجيال.

******

(*) نشرة أفق

اترك رد