الكاتب والإعلامي بلال حسن التل
يحتفل العالم يوم السبت المقبل «باليوم العالمي للغة الأم»، تنفيذاً لقرار منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «اليونيسكو» اعتماد اليوم الحادي والعشرين من شهر شباط من كل عام يوماً عالمياً للغة الأم، إدراكاً من هذه المنظمة العالمية التي تضم في صفوفها خيرة التربويين ورجال التعليم في العالم والذين أكدوا إن إتقان الطفل للغة الأم هو الأساس المتين لبناء كل علومه ومعارفه الأخرى.
فمن لا يتقن لغته الأم لا يمكنه أن يتقن أية لغة أخرى، كما سيظل استيعابه لسائر العلوم والمعارف استيعاباً منقوصاً إن لم يتعلم هذه العلوم والمعارف بلغته الأم، ومن هنا حرصت كل شعوب الأرض وأممها على توطين العلوم والمعارف بلغاتها الأصلية، ومن ثم تعليم أبنائها لغتهم الأم، ويكاد العرب أن يكونوا هم الاستثناء الوحيد في تعليمهم لأبنائهم بغير لغتهم الأم، ولعل هذا سر التخلف العلمي الذي يعاني منه العرب بالرغم من أن التعليم الجامعي بدأ في البلاد العربية منذ ما يقارب المائة عام، لكنه للأسف لم يكن بلغتهم الأم مما حرم بلدانهم من فوائد توطين العلوم والمعارف باللغة الأم، كما حرم أبناءهم من الإبداع العلمي لأنهم يتلقون العلوم بغير لغتهم الأم أعني اللغة العربية.
لقد سميت اللغة الأصلية للشعوب باللغة الأم لأن هذه اللغة هي أول ما يتعلمه الإنسان من أمه، دون الحاجة إلى الذهاب إلى مدرسة أو معهد. فالطفل يرضع من أمه لغته الأصلية كما يرضع منها حليبها الذي يقتات به ويستمد منه عناصر البقاء لجسده، في حين تمده لغته الأم التي يتلقاها من أمه بعناصر حياته المعنوية في جوانبها الروحية والثقافية والاجتماعية. فعندما تبدأ الأم بتعليم طفلها فنون الكلام منذ طفولته الاولى، أي من فترة (المناغاة) فإنها تعلمه معها منظومة القيم والتقاليد والآداب التي تريده أن ينشأ عليها.
لذلك فإن لكل شعب من الشعوب (مناغاته) التي عرف بها، يلقنها لأطفاله، ومعها يلقنهم قيمه وثقافته، وهو ما أدركه العرب مبكراً فاهتموا اهتماماً كبيراً بالمناغاة، فكانت لكل قبيلة من قبائلهم مناغاتها التي تعرف بها، وكانوا يسمونها « التزفين»، وكان تزفين القبيلة يتضمن ما تريد أن تربي أطفالها عليه من قيم، كل ذلك باللغة الأم للقبيلة أو الشعب.
لذلك شبه العلماء اللغة الأم بالصندوق الأسود للطائرة ؛ لأن اللغة الأم تحتوي على المعلومات الوراثية للإنسان، ومكوناته الثقافية، وتراثه الأصلي، وقيمه المعنوية وتحدد هويته القومية.
ومثل أهمية اللغة الأم للفرد، فإن أهميتها للشعب والأمة أكبر. ذلك أن اللغة الأم هي رمز سيادة الأمة واستقلالها. وهي التي تمنح الشعب هويته. لذلك فإن الشعوب الحية لا تفرط بلغتها مهما بلغت التضحيات، ويكفي أن نذكر بأن اليابانيين وافقوا على كل شروط الهزيمة في الحرب العالمية، باستثناء الشرط المتعلق بلغتهم، كما أن القائد الفيتنامي «هوشه منه» ظل يحث الفيتناميين أثناء قتالهم ضد المحتل الفرنسي، ومن بعده الأمريكي على التمسك بلغتهم الأم كعنوان لمقاومة الاحتلال، فمن المعروف أن المحتل يسعى أول مايسعى عند احتلاله أرض شعب آخر إلى إبعاد ذلك الشعب عن لغته الأم، ولنا في قرار الانتداب البريطاني في تحويل التعليم في مصر من اللغة العربية إلى اللغة الإنجليزية، وهو القرار الذي ما زلنا ندفع ثمنه في كل البلاد العربية التي خضعت للاستعمار البريطاني أوضح مثال في سعي المستعمر لإبعاد الشعب عن لغته الأم. وهو بالضبط مايجري الآن في فلسطين المحتلة، مما يذكرنا في سعي الفرنسيين إلى فرنسة الجزائر عبر طمس اللغة العربية اللغة الأم للجزائريين.
وفي هذا المجال، ومن نافلة القول التذكير بأن العرب تحملوا كل عنف وظلم وجور «الاتحاديين» عندما تحكموا بالدولة العثمانية في عقودها الأخيرة، لكن ثائرة العرب ثارت عندما حاول الاتحاديون تتريك العرب بطمس لغتهم العربية، فكانت ثورتهم الكبرى.
وفي مقابل سعي المستعمر لطمس اللغة الأم للشعوب التي يحتل أرضها، فإنه يسعى إلى تعميم لغته ونشرها من خلال إنفاق الأموال الباهظة، وإقامة المؤسسات المختصة بتعليم هذه اللغة ونشرها، وفي هذا المجال نستذكر الرابطة «الفرانكفونية» التي تمولها فرنسا بالملايين، ومثلها منظمة «الكومنولث» البريطاني. وكلتاهما من أول أولوياتهما نشر اللغتين الفرنسية والبريطانية، كل حسب قدرتها ونفوذها.
وبعيداً عن السياسيين وسعي المستعمر لطمس اللغة الأم، فإن أهمية اللغة الأم تظهر أكثر في مجال التربية والتعليم، حيث يقول العلماء: إن أي ضغط على اللغة الأم لأي شعب من الشعوب يؤدي إلى عدم استقرار شخصيته الوطنية، ويحوله إلى شعب متوتر اجتماعياً وسيكولوجياً، وفي مجال التعليم، فإن المنظمات العالمية المعنية وفي مقدمتها «اليونيسكو» تؤكد على أهمية تلقي الطفل تعليمه المدرسي باللغة الأم، خاصة في سنوات تعليمه الأولى. كما تؤكد هذه المنظمات على أهمية أن لا يتحدث الأهل أمام أطفالهم بغير اللغة الأم.
وهذا التحذير من المنظمات العالمية المعنية بالتربية والتعليم، يبين لنا حجم الخطأ الذي يصل حد الجريمة التي ترتكبها بعض الأسر الأردنية بحق أطفالها، عندما تصر على تعليمهم لغات أجنبية في سن مبكرة، وقبل إتقانهم لغتهم العربية التي هي لغتهم الأم، بكل ما يمثله ذلك من خطر على جهازهم العصبي وقدرتهم على استيعاب العلوم والمعارف. وقبل ذلك توازن بنائهم النفسي، والاجتماعي.
فكيف إذا تزامن ذلك كله مع ترك هؤلاء الأطفال للخادمات الأجنبيات يعلمنهم لغاتهن وقيمهن وعاداتهن؟ عند ذلك لا غرابة أن نشهد جيلاً ممزقاً يشعر بالضياع والغربة عن محيطه الثقافي والاجتماعي.
خلاصة القول: إن هناك علاقة وثيقة بين علاقة الإنسان بأمه وعلاقته بلغته الأم، فكلاهما يمدانه بأسباب الحياة السليمة المتوازنة. لذلك فإن أي عقوق من الإنسان للغته الأم سينعكس عقوقاً لأمه التي لم تتقن تعليمه لغته الأم، وبالتالي تربيته على قيم وأخلاق هذه اللغة.
*******
(*) رئيس المركز الأردني للدراسات والمعلومات وناشر وصاحب جريدة “اللواء” الأردنية.