أردنيون لا كذب

الكاتب والإعلامي بلال حسن التل

مرة أخرى تكشف ملاحم الشهادة، وآخرها ملحمة الطيار الشهيد معاذ الكساسبة، معدن الأردنيين الأصيل، bilal talفإذا هم شعب توحدهم الشهادة، وتطهرهم دماء الشهداء من كل مظاهر الاختلاف والضعف والوهن، فيعودون إلى جوهرهم شعبًا موحد الكلمة، موحد الصف، موحد الهدف. وقبل ذلك شعب معطاء حكيم، منضبط تحكمه روح الجندية، وتتجلى في لحظة الشهادة.

وهذه الصفات التي تُشكل في مجموعها جوهر الأردنيين، لم تأت هكذا عفو الخاطر، ولا هي نبتة شيطانية سرعان ما تزول، لكنها خلاصة تجربة ضاربة الجذور في عمق تاريخهم، وهو تاريخ لا يكثر الأردنيون من الحديث عنه، لأنهم يعيشونه ويصنعونه، فهم بُناته الذين يعلون بنيانه عبر العصور، فعاصمة الأردنيين «عمان» هي نفسها «ربة عمون» وهي نفسها «فيلادلفيا» التي ما زالت زاخرة بالحياة عامرة بمعالم الحضارة التي بنتها عبر اثنى عشرة ألف سنة ويزيد، هي عمر عمان التي ألف الأردنيون قلعتها التي تذكرهم بعراقتهم وجذورهم الضاربة في عمق التاريخ، بل الصانعة للتاريخ الذي يقرأ الأردنيون بعض صفحاته في المدرج الذي يحتضنه قلب عاصمتهم، مثلما يقرأونه في سبيل الحوريات على مرمى البصر من القلعة عبر المدرج إلى السبيل.

ليست القلعة والمدرج وسبيل الحوريات وحدها دلائل الحضارة وشواهد التاريخ التي تضج بها عاصمة الأردنيين، فكثيرة هي شواهد التاريخ في عمان، التي يفاخر بها الأردنيون الذين كانوا من أوائل العرب الذين أقاموا ممالك، وصنعوا حضارات، ما زالت الشواهد عليها كثيرة، تبعث الفخر في نفوسهم، وتحثهم على المزيد من الإنجاز على طريق أجدادهم الذين بنوْا البترا عاصمة مملكة الأنباط وحوارثهم، والتي ما زالت تذكر الأردنيين بان أجدادهم هم الذين وقفوا في وجه روما، ومنذ تلك الأيام وما قبلها رضع الأردنيون وعبر تاريخهم معنى الإباء ورفض الرضوخ، مثلما رضعوا حب الشهادة في سبيل الوطن.
ومثل البترا كذلك الكرك، ومملكة مؤاب، ومليكها العظيم «ميشع»، قاهر الإسرائيليين صاحب المسلة الشهيرة، والذي سطر أروع صفحات المجد في سفر الأردنيين، الذين بنى تاريخهم في نفوسهم صفات الانضباط، والحكمة، وأرضعهم روح الشهادة التي كان ابن الكرك وحفيد ميشع مُعاذ آخر تجلياتها حتى اللحظة، ذلك ان نهر الشهادة ما زال دفاقًا في هذا الوطن الذي يؤمن أبناؤه بأن كل جندي، أو ضابط من أبناء قواته المسلحة.. بل كل فرد فيه هو مشروع شهيد.

ومثل جنوب الأردن كذلك شماله في أرابيلا «إربد» وجدارة «أم قيس» وجراسيا «جرش».. بل إن كل قرية، أو مدينة من مدن وقرى هذا الوطن تشكل صفحة من صفحات التاريخ الأردني التي تجسدت مدننا تعلم الحكمة والانضباط وترضع أبناءَها حب الشهادة، وتجعلهم عشاقًا لها.

ومثلما ساهم التاريخ في تكوين الأردنيين، وإكسابهم صفاتهم الجوهرية، وأهمها الحكمة والانضباطية وروح الجندية التي تعشق الشهادة. كذلك ساهمت النبوّة هي الأخرى في صقل هذه الصفات وتعميق قيمة الانضباط فيها، وتجذير الحكمة في تصرفاتها، فهنا في الأردن عاش نبي الله العربي شعيب، وهنا في الأردن عاش نبي الله يحيى، وقضى نبي الله عيسى شطرًا من عمره. ومثله فعل نبي الله موسى وأخوه هارون، وبجنات الأردن بشرى نبي الله محمد عليه السلام، وشعب يعيش على أرض النبوة ويشم عبقها آناء الليل وأطراف النهار، لا بد من ان يتعلم فنون الحكمة والانضباط، ومعها فنون الشهادة التي يجيدها الخُلّص من أتباع الرسل، ومنهم الأردنيون الذين صارت الشهادة توأمَهم، يتسابقون إليها كلما نادى المنادي، وتذكرهم بها أضرحة الشهداء التي تزين أرضهم من أقصاها إلى أقصاها، ابتداءً من أول العهد مع آل البيت، وأول شهدائهم خارج جزيرة العرب أشد الناس شبهًا برسول الله خلقًا وخُلقًا «جعفر الطيار» وحب رسول الله «زيد بن ثابت»، وصحابي رسول الله «عبد الله بن رواحه» مرورًا بأمين الأمة «عامر بن الجراح»، وصولاً إلى قاضي رسول الله «معاذ بن جبل» وغيرهم آلاف الشهداء الذين تُرصّع قبورهم أرض الأردنيين، وتذكرهم بأن الشهادة قدرهم فيتسابقون إليها، حتى صار من كل عشيرة من عشائرهم شهيدٌ أو أكثر وحتى صار منهم ملكٌ شهيدٌ، ورئيسٌ للوزراء شهيدٌ، وحتى صار ضابطهم يسابق جنديهم إلى الشهادة.. ليس دفاعًا عن تراب الأردن فقط، بل دفاعٌ عن كل تراب الأمة. لذلك كان أول شهيد في مواجهة الهجمة الصهيونية على فلسطين أردنيًا، هو «كايد المفلح العبيدات» الذي سبقه إلى الشهادة في أقصى بلاد العرب «نجيب البطاينة» الذي قضى دفاعًا عن حرية ليبيا ضد المستعمر الغربي، لينضم إليهما والى آخرين من الأردنيين مثلهما «معاذ الكساسبة» الذي نال الشهادة في بقعة أخرى من بقاع الأرض العربية ترسيخًا للتوأَمَة مع الشهادة.

وتأكيدًا لدور الجندية الأردنية الممتدة من الحارث النبطي، إلى ميشع المؤابي، إلى موسى بن نصير الغوراني، إلى وصفي التل الإربدي، إلى معاذ الكساسبة الكركي، وكل هؤلاء دافعوا عن شرف الأمة في كل مكان، وفي كل زمان، فهذه هي مهمة الجندية الأردنية التي يتجلى فيها جوهر الأردنيين في الانضباط والحكمة وعشق الشهادة دفاعًا عن وجود أمتهم وشرفها، وقبل ذلك دينها.

نعم كل هؤلاء من فجر التاريخ، مرورًا بميشع والحارث إلى معاذ «أردنيون لا كذب».

****

(*) رئيس المركز الأردني للدراسات والمعلومات وصاجب وناشر جريدة “اللواء “الأردنية.

اترك رد