مار مارون الموارنة والهنود الحمر

البروفسور الأب يوسف مونس

الكنيسة المارونية تأسست على راهب.mouanesالفارق الهام في تاريخ تأسيس الكنيسة المارونية هو انها تأسست على راهب تنسك في العراء وليس على مدينة او عاصمة كمدينة اورشليم، او القسطنطينية او انطاكية او الاسكندرية او روما وسواها من المدن او الحواضر.

المارونية تأسست في الوعر والتقشف والزهد «وافراغ الذات» كما ورد في الكتاب المقدس. فكانت تيارا نسكيا وروحيا وفكريا وسلوكيا ونهجا حياتيا ونمطا اجتماعيا يعيش بساطة الانجيل ومحبة يسوع والانسان والبيئة او الطبيعة والارض دون اي الغاء للاخر او اعدامه وحرقه ونهشه او قتله.

بل احترام شخصه وحريته وكرامته وتراثه وغيرته واختلافه والاغتناء منه في خصوبة اللقاء وتفجير معنى الحوار.

هذه الريادة الروحية والحياتية والوجودية طبعت تاريخ ومسار الموارنة الذين تبعوا مار مارون كمثال لهم ARCHETYPE مجسدين في حياتهم وبيوتهم وعيالهم ومحيطهم القيم الجذرية للانجيل.

لم تتأسس الكنيسة المارونية على رسل من الرسول كروما التي تأسست على بطرس والاسكندرية على مرقس واورشليم على يعقوب والقسطنطينية على اندراوس، وانطاكية على بطرس بل تأسست على راهب طلب يوحنا فم الذهب صلاته في سنة 407.

ما هو سر الموارنة؟

ما هو سر هذا القديس العظيم الذي ظهر في كنيسته شربل ونعمة الله ورفقا والاخ اسطفان وكوكبة من الرهبان الابرار والنساك والحبساء القديسين المتصومعين في الجرود والجبال والوديان في البرد والثلج والحر والزهد والفقر والوعر والصخر. في المغائر وشقوق الارض. ما سر هؤلاء الموارنة فكرا وروحا وقداسة وعمرانا وخدمة وعيشا مشتركا مع الاخرين، وحركات تأسيسية في الثقافة والنهضة والطباعة وتحرير للمرأة في المجمع اللبناني سنة 1736 وقد مر على وجود مار مارون اكثر من ستة عشر قرنا وقد تعايشوا مع جميع الطوائف والجماعات: من درزية موحدة، او شيعية كربلائية مفجوعة او سنية ناظرة الى وجه الله الواحد الرحمن الرحيم، او ارثوذكسية مسحورة بالايكونستاز الرائع الجمال، او الارمنية المهدور دمها مذابح كالانهار او العلوية المضطهدة المقهورة او سواها من الاقليات الاخرى التي استضافتها وقدمت لها الخدمات والارزاق وحرية الوجود والمعتقد.maroun

عيش التجسد

كان للموارنة اهمية لاهوتية كبرى عندما وازنوا بين الطبيعيتين الالهية والانسانية في شخص يسوع المسيح. فلا الالوهة دمرت الانسانية ولا الانسانية غرقت في المادية بل قدرت على التأله. من هنا كانت المارونية تيارا لاهوتيا وانسانيا وروحيا وفنيا وحضاريا وفولكلوريا عاش التجسد معانيه اللاهوتية والانسانية. فقدروا على شخصيتهم المميزة في لبنان والمشرق والعالم ما هو سرهم كي يستمروا طوال هذا الزمن، بالرغم من الاضطهادات والمذابح والهجرة والتهجير؟ ان سرهم يكمن في ثباتهم بايمان راسخ بيسوع المسيح وتعلقهم بكرسي بطرس وبالارض وبكرامة الشخص البشري وبقيم الحرية والديموقراطية واحترام كرامة المرأة والامانة للوطن الذي يعيشون فيه اكان ذلك في لبنان وفي العالم منذ سنة 410.

دور الرائد تجلى في المجمع الخلقيدوني وفي الدور الذي لعبه ديرهم المشيد سنة 452 في اللاهوت وفي تقديم فكر وعقيدة التجسد رابطا بين الالوهة المتجسدة دون ان تدمر وتحرق الانسان والانسانية المتألهة دون الغرق في محدودية المادة وفنائها او في معطوبية الوجود البشري. انها الثورة الفكرية في ربيع لاهوتي دائم. هذا المدار ما زال معيوشا الى اليوم.

جدلية ثورية دون دماء

هذه الجدلية الثورية دون دماء هي جدلية فكرية روحية انسانية هي التجذر دون انغلاق، وانفتاح دون انفلاش وفقدان للهوية انها العيش في الوحدة مع الوحيد الازلي المطلق وانخراط والتزام في اوضاع الناس والآمهم. ازلية في الان والزمن والوقت والوجود ووجودية في الازلية والسرمدية والابدية والدوام. انها جدلية رائعة في الحياة والفكر الروحي واللاهوتي والاجتماعي والفني والانساني. هذا الوضع يختصره المثل القائل: «عصيهم وصلبانهم من خشب وقلوبهم من ذهب.. او «عالم كماروني» او مورونيه تومتكس» Moronieh lo tomitex الموارنة لا يقفون في الصف او لا يتوحدون. هذا هو نزقهم وتفردهم وواقعهم بالامس واليوم. وهذا هو تحيزهم: لا عبودية عندهم ولا حواري، ولا جواري ولا حريم ولا خصيان بل استقلالية وحرية تامة في محيطهم وبيئتهم. انهم كما كتب عنهم البابا هرمزدا «الوردة بين الاشواك» او كما كتب شارل مالك: لبنان امانة في اعناقهم او كما كتب كمال الصليبي: رسالة لبنان، رسالة الموارنة، او كما قال المونسنيور ميسلن: لبنان عمل الموارنة. او ما كتبه عنهم لامارتين: اذا شئت ان تعرف بساطة العيش فاذهب الى عند الموارنة اما ما كتب عنهم الشيخ خلدون عريمط في كتابه عن الموارنة وقبله للمطران ديب والاب ميشال حايك والاب يواكيم مبارك او الاباتي بولس نعمان، او المونسنيور داغر.. وسواهم العديدين لا مجال هنا لذكرهم فبين معرة النعمان ومنطقة افاميا ومنطقة براد وجبال لبنان وسهوله ووديانه او سهول سوريا وجغرافيتها او بلاد الانتشار والاغتراب قام تاريخ شعب تميز بطقوسه وسلوكياته وتعبد لمريم وريادته التأسيسية الفكرية في عالم من قداسة السيرة والابداع العقلي.

كل الشعوب لها شخصيتها المميزة وتاريخها الفريد المرتبط بالارض والسماء والشهادة والحضارة والثقافة والفولكلور، والمأكل والمشرب واللباس والرقص، وطقوس الحياة والخصب والموت والعبور والموت وما بعد الموت والتراب والموارنة ككل هذه الشعوب لهم شخصيتهم المميزة واسباب فخرهم وتعلقهم بارضهم وببطريركهم واساقفتهم وكهنتهم وقادتهم وشهدائهم وقديسيهم وقديساتهم وعاداتهم وتقاليدهم وطقوسهم وبابطالهم وشعرائهم وفنانيهم وغيرهم كثر من ابائهم النجباء الذين ولدوا منهم وقد صنعوا لهم مجدا عظيما كما يقول الكتاب المقدس ويحق لهم المديح والاكرام وعليهم الاقتداء بهم واخذهم مثالا ومنائر طريق من ابرار وصديقين وفلاسفة صلاتي للرب يسوع ولمار مارون ان يحفظا هذا «القطيع الصغير» وهذه البقية الباقية التي كسبت من «الهنود الحمر» والتي لم تسجد ركبتها لبعال كما يقول الكتاب المقدس والتي بقيت تصلي في لبنان والمشرق والعالم.

*****

(*) أمين سر اللجنة الاسقفية لوسائل الإعلام

اترك رد