الروائي واسيني الأعرج
مرة أخرى تفرض الصورة التليفزيونية نفسها لأنها وسيلة تنويرية للمشاهد المتابع للأحداث، إذ لا قيمة للخبر اليوم بدون السند الصوري. أمر طبيعي جدا، بل يدخل في صميم العملية الإعلامية. لكن المشكل اليوم هو ان هذه الصورة انزلقت عن وظيفتها وأعطت لنفسها حقا لا تملكه، ساعدها على ذلك التواطؤ والصمت.
أفظع شيء يمكن أن يحصل للعائلة، هو أن تُستعرض جثّةُ فقيدها على مرأى من العالم من خلال القنوات المرئية، وهي في حالة تمزق جراء قنبلة، أو في حالة تحلل حين العثور عليها في مكان ما. على الرغم من أن العادات والتقاليد والأعراف والأديان تمنع قطعيا ذلك، وتحافظ على حرمة الجسد لدرجة القداسة.
فما بالك عندما يتم عرض الجثث أمام كاميرات المصورين وكأنها أشياء تستثار بها عيون المشاهدين فقط. الحقوق الدولية كلها والقوانين تضمن هذه الحرمة. ومع ذلك يعرض الجسد العربي وكأنه خردة، بلا قيمة، حتى أنه أصبح مباحا بلا رادع قانوني. لا احترام لا للميت ولا للذين جرحوا بفقدانه. المهم في عملية العرض هو استدرار العطف وربح زبائن جدد في اللعبة الإعلامية لمختلف القنوات العربية التي أصبحت تتنافس على المشاهد الأكثر دموية.
الغريب أن في القنوات الدولية العربية تتغير الصورة، فيختفي الجسد الممزق وتحل محله إيماءات وإشارات يوضحها التعليق فقط أو المشاهد العامة والموسعة. شيزوفرينيا عربية غريبة، ما يسوق دوليا شيء وما يتم بلعه عربيا شيء آخر. في أمريكا مثلا، إبان الاعتداء الإرهابي المقيت على البرجين التوأمين، والذي خلف أكثر من 3000 ضحية، لم نر جثة واحدة. ولا يدا واحدة.
ولا أصبعا واحدا. العملية الإرهابية الأخيرة في فرنسا التي أودت ب 17 ضحية، لم نر أي استعراض أو استغلال لها، بما في ذلك جثث المعتدين، على الرغم من أن الوضع مناسب لإظهار وحشية الإرهاب. حتى صورة الشرطي أحمد الذي قتل أثناء العملية على المباشر، سرعان ما سحبت صورته من كل وسائل الإعلام اليمينية أو اليسارية.
مما دفع بالكثير من العدميين إلى القول بأن المسألة مركبة صهيونيا، وأن منفذي العملية غير موجودين، بدليل تغييب الجثث مثلما حدث في البرجين التوأمين، التي تنكرت بعض الأطروحات لوجودها أصلا، وأنها ليست أكثر من خدعة سينمائية. مع أن هوسا بلغ هذا الحد من العدمية والنكران لا تثبته الوقائع التي جرت فقط، بل جغرافية نيويورك التي لم يعد بها البرجان التوأمان. في إسرائيل أيضا لم نر جثة واحدة من الذين قتلوا في الحروب التي خاضتها ضد العرب أو جراء العمليات الاستشهادية التي قام بها الفلسطينيون في مدن كثيرة.
نعرف أن الهولوكست أهان الجسد اليهودي والغجري بقوة، بتعريته أظهر وانتهاك حرمته على مدار الحرب العالمية الثانية، مما جعل الآخرين يحفظون الدرس جيدا. الحروب التحررية التي خاضها العرب كانت نبيلة في علاقتها مع الجسد العربي. الاستعمارات الغاشمة هي التي جعلت من الجسد العربي وسيلتها للتسلية وممارسة كل الأمراض. لنا في ثورة الجزائر ميراث كبير من الصور الوثائقية. الغريب أن الجسد العربي لا يمتلك اليوم هذا الحق الأدنى من الاحترام، المتاح للجميع.
ومن شدة الإباحة المتعمدة والتكرار القاسي والممل، لإظهاره ممزقا ومتفجرا ومحروقا، لم يعد هذا الجسد يثير حتى الشفقة لدى المشاهد، لأنه دخل في العادي من كثرة إظهاره. تنافست الكثير من القنوات العربية في استعراض جثث أطفال غزة بوجوههم الملائكية المتفحمة والمغبرة، تتقاذفها الأكف والأذرع، إثر الاعتداء الإجرامي الإسرائيلي الأخير، فتحولت الصورة مع الوقت إلى حالة تكاد تكون عادية.
أن يموت عشرة أفراد، أو عشرون، أو حتى خمسون في تفجير في بغداد، أو في حمص أو حلب، أو في صنعاء أو بنغازي أو غيرها من المدن العربية، لا يثير ذلك شهية الإعلام المصور إلا في استعراض الجثث وكأنها ليست أرواحا كانت مليئة بالحياة قبل لحظات. حتى كبار الأعداء والطغاة تستحق أجسادهم هذه الحرمة. في الإلياذة والأوديسة بعد المنازلة القاتلة بين آخيل وهكتور التي تنتهي بمقتل هذا الأخير، يغامر ملك اليونان ليلا إلى آخيل ويترجاه أن يعيد له جسد ابنه، ويمنحه فرصة دفنه، وأن لا يهينه ميتا.
وعلى الرغم من أحقاد آخيل، يمنح هذا الأب الشجاع فرصة دفن ابنه احتراما لجسد عدو كان بطلا تراجيديا مقاوما وبطوليا. هل نتعظ في علاقتنا بجسد الآخر العربي؟ كلنا يتذكر النظرة الباردة لوجه الرئيس صدام حسين وهو يواجه قاتلا وجد متعة كبيرة في شنقه على مرأى الجميع، في صباح يوم العيد.
كلنا يتذكر أيضا صورة الوجه الدامي للقذّافي، تتناهشه الأيادي من كل جهة التي تذكر بموت موسوليني. كانوا طغاة نعم، لكن الذين خططوا لقتلهم لم يكونوا ملائكة. حالة إشباع للعين التي ماتت حواسها أو أصبحت مريضة بالدم. وكأن في السر المخفي عميقا هناك منافسة غريبة للأخلاق الداعشية التي لا قيمة في منطقها لشيء اسمه الإنسان.
وصورها التي تبثها عبر الإنترنت واليوتيوب تبين إلى أي حد أصبح هذا الجسد لعبة إعلامية لا أكثر. صورة بمجرد انتهاء مفعولها تبدأ عملية الانتظار للصور القادمة. من شدة الاستهانة بالجسد العربي تحديدا، فقدت الصورة سلطانها وإثارتها، إذ ألفها المشاهد، والأخطر من ذلك أنه تآلف معها. وكأن هذا الجسد المعروض والمنتهك في خصوصيته ليس ملكا لشخص أو لعائلة، لكنه ملكية الكل، وللكل الحق قي العبث به إعلاميا. هذه جناية حقيقية يفترض أن يحاكم عليها مرتكبوها سواء كانوا أفرادا أو هيئات اعتبارية.
الأفظع من ذلك كله، لا يوجد قانون إعلامي في هذا السياق، للأسف في الوطن العربي، يحمي استغلال صورة الميت. وحتى في حالة وجوده، يتم التحايل عليه باسم الحرب والبروباغندا. ماذا لو رفع الضحايا الذين ظهروا شبه عراة وممزقين على الشاشات العربية، قضايا جنائية ضد القنوات التي استثمرت في جثثهم المتناثرة، وآلام أبنائهم وأهاليهم؟ لابد أن يكون هناك قانون صارم يحمي الأشخاص حتى في موتهم، كيفما كانت صفاتهم، حكاما أم محكومين، لأنهم ليسوا بضاعة إعلامية متاحة ومباحة.
المشكلة الكبيرة هي أننا عربيا نحتاج إلى إعادة تربية حقيقية في التعامل مع الصورة ومع جسد الميت، وإلى قوانين صارمة. ديمقراطية الصورة نعم، الحق في المعلومة والسبق الإعلامي نعم أيضا، لكن عندما تمس قدسية الجسد تسقط كل هذه القيم، وتصبح عملية تسليع هابــــطة، وتـجـــــارة في الأمـــوات، ولا علاقة لها بفكرة نبيلة عالية كالديمقراطية أو الحق في الإعلام والتنوير.
ليفكر عارضو هذه الصور على الشاشات العربية في لحظة ولو هاربة، أنهم هم من في الصورة؟ ماذا سيكون موقفهم وموقف أهاليهم؟ جيد أن نبدأ من الأشياء الصغيرة التي تخصنا.
*****
(*) القدس العربي