د. جوزاف ياغي الجميل
عندما تقرأ كتاب آدم،(السماء تبدأ من الأرض) للإعلامي الصديق الأستاذ إيلي صليبي ، تصاب بالحيرة من أين تبدأ مقاربتك للكتاب: أتلجأ إلى الفلسفة والكتاب غنيّ بالنظريات التي حار فيها كبار الفلاسفة ، عن نظرية الكينونة الوجودية،وخلق الإنسان، وثنائية الخير والشرّ وأسبابها، أم تغوص في عمق البعد اللاهوتي لنظرية خلق آدم وحواء، وسبب سقوطهما من الجنة ، بعد فرضية الأكل من تفاحة المعرفة، معرفة الخير والشر، وعصيان الله؟
وتدفعك النظريتان الفلسفية واللاهوتية إلى الصراع القديم الجديد بين المذاهب الفكرية اليقينية والإلحادية والتوفيقية.ولكنك حينذاك لن تصل إلى فهم ماهية الفلسفة “الصليبية ” التي يدعو اليها صاحب نظرية “السماء تبدأ من الأرض”.ولن تكون القراءة الأولى للكتاب سهلة بالقدر الذي يتوقعه القارئ، على الرغم من عدم ميل الكاتب الى ما يسمى السهل الممتنع.
بداية يعلن الكاتب في مقدمة الكتاب تبرّؤه من كل ما يمكن أن يكون هرطقة أو خروجاً على الدين. ولكنه يضيف أنّه يبحث عن “ديانة جديدة لا تتنكّرللديانات، بل تسعى إلى جمعها”(ص 8). فما هي مقوّمات هذه الديانة؟
لا يعلن الكاتب صراحة مقوّمات هذه الديانة ، ولكننا نرى ملامحها في أماكن متفرّقة من الكتاب.إنها باختصار ديانة الإنسان، آدم، الذي متى وجده وجد الله.ديانة تخرجه من غربته ، فيعود إلى ذاته “لابساً ظَفَر الحياة”. ولكنّ واقعه متناقض تماماً وهذا التمني.يقول: “توقعت الترحيب بي، فلقيت المقت،/ توسمت التكريم ، فواجهت النبذ،/ توسلت الصداقة ، فتلقفت العداء…” ويرسل صرخة أشبه بصرخة يوحنا المعمدان في وجه من يحترفون القتل وعبادة الوثن الورقي، المال، مطلقاً عليهم صفة “أولاد الأفاعي”(ص 12)، ويصبحون تماماً كما رآهم جبران خليل جبران أمواتاً “يحمل كل منهم كهفه ويمشي/ جسده كفناً ويمشي”(ص 12)، وتعيدنا صورة الكهف إلى نظرية عالَمي الحقيقة والظلال الأفلاطونية. ديانة ركنها الدنيوي عدالة اجتماعية تساوي بين الملوك والعبيد، النخبة والعاميين، لأن الجميع أبناء آدم.(ص 21). ديانة لا انقطاع فيها بين الأرض والسماء، ركنها الأساس الأرض التي لولاها ” لما كان للسماء معنى”(ص23)، تكون فيها الأنا، الإنسان المحور، شريكة الله في صك ملكية الأرض ولها سهم في ملكية السماء. وتمتد جذور الديانة الجديدة التي يؤمن بها الكاتب الى فعل شراكة وعناصر الطبيعة التي تشارك الإنسان في فعل العبادة الذي لا يدرك كنهه إلا الإنسان الذي صفت روحه وتنزهت عن الماديات. فتنشأ أخوّة بين الكاتب الصخور، متسائلاً:
“لماذا لا تكون هي ابنة الحياة، كما انا ابنها؟ماذا لو كنت أنا الصخر وهي الإنسان؟” ويجيب نفسه مؤكّداً هذه الحقيقة:”لعلّها تدرك ما لا أدرك، وتفهم ما لا أفهم”(ص 46)، ويتماهى الكاتب بالقديس فرنسيس الأسيزي حين يتابع مخاطباً أخواته الزهرة ، ملكة جمال الحقول، والشجرة، ” من سيدات العصور المترهبات في أديار الطبيعة”(ص 48) ، والسحابة، غجرية الترحال في الفضاء، والنجمة التي لا أحد يملأ سراجها بالزيت، والنهر، والساقية،واليم، مرآة السماء، والعصفور، والسنبلة، رزق السماء…صلة الوصل بين الأرض والسماء،”لئلاّ تهوي الأرض في هاوية الفراغ، وتعلو السماء إلى الفراغ الأعلى”(ص 51).
ويطلق الكاتب عدداً من الوصايا في سفر الشريعة ، هي شريعة الديانة الجديدة التي أعلنها آدم ، وسجّلها على ألواح حجرية تذكّرنا بالألواح السومرية. يدعو فيها الكاتب للتوفيق بين الديانات السماوية الثلاث ، فضلاً عن شروط أخرى مرتبطة بحالة الكينونة البشرية، وذلك بأن يكون الإنسان السفر والصفر، الغارس والمغروس ، الشخص الذي يبني الجديد على أطلال القديم. ويمتاز هذا القسم من الكتاب بغلبة بنية الأمر مع فعل الكينونة: كن( 13 مرة في صفحتين)وتكرار جملة ” خذ امرأتك” 4 مرات في صفحتين متتابعتين( ص 67 ، 68)وثلاث جمل فيها فعل أمر مرتبط بامرأتك(69-70).
وحين يعجز الكاتب عن تحقيق ملكوته هذا يدعو إلى الثورة التي هي رديف المعرفة.فيدعو، على لسان آدم، عناصر الطبيعة الى الثورة ، من الديمة إلى التينة إلى الينبوع والهواء وعذارى الكروم وقناديل السماء…ولكنها ثورة معرفية ، عقلانية ، سلمية…وهو في تشبيه الثورة يقدّم أمثالاً شبيهة بأمثال الإنجيل ” تشبه الثورة صيحة ديك …تشبه عروساً زفت الى عريسها ، ولكن فرحها ينغصه رصاص الابتهاج…”(ص 58). وهي ثورة جذرية لا تكتفي بتغيير الحكام بل الأحكام في سبيل بناء مدينة الله.
من جهة أخرى، يتضمّن الكتاب تسعة أسفار أوّلها سفر الرجعة وآخرها سفر النهاية.ورقم تسعة رمز للقداسة في الديانات الشرقية. وإذا كانت الرجعة تساوي ولادة آدم الإنسان على الأرض، فإنّ سفر النهاية يعني انتصار آدم على عدميته وتحوّله إلى مساوٍ للإله ، على صورته ومثاله وقد استيقظ من موته، غفلته الطويلة.
أمر آخر لا يقل أهمية عن العرض الذي قدمناه للكتاب، وهو أن ثقافة الأديب ايلي صليبي الموسوعية تمتد جذورها إلى الماضي الحضاري والديني والأدبي. وقد تجلّت معالم شخصيته الأدبية والفكرية والدينية ذات طابع مزدوج السمات في البعدين الفلسفي والديني. فأصبحت كتاباته نسيجاً من الذاتية الإنسانية التي شعارها :الإنسان هو الألف والياء، ومن الخراف المهضومة التي يتألف ويتآلف معها الليث، في ما يطلق عليه ” التناص. ومن أبرز معالم هذا التناص:
أولاً: في البعد الثقافي يمتزج الفكر المشرقي والأوروبي حين يقول الكاتب:” لأطلق حياض ما اختزنتُ من ماء الحياة”.وفي هذا الكلام تناص والأديب اللبناني أمين نخلة في المفكرة الريفية حيث يقول الكاتب نخلة ،على لسان العنزة: وأطلقْ حياض الماء .ونقل الأستاذ صليبي شطراً من بيت شعريّ لأبي العلاء المعري بما فيه من شكّ يقود إلى اليقين.
والذي حارت البرية فيه [حيوان مستحدث من جماد]
كما نرى فيه استجابة لنظرية غاندي في نظرية اللاعنف، وتماثلاً واضحاً بين كتاب النبي لجبران وكتاب آدم في موضوعي المحبة والزواج.يقول الصليبي: المحبة ليست المعزّة، وإفراد زوايا القلب للأعزة، بل إلغاء الذات في الأحبة”( ص 90).
ولعلّنا نرى في موضوع العلاقة بين ادم وحوّاء لقاء، وإن بشكل عرضيّ، بين الكاتب صليبي والكاتب الأميركي مارك توين.ويبدأ التشابه من عنواني الكتابين: يوميات آدم وحواء للكاتب الأميركي وكتاب آدم للكاتب اللبناني، كما يتقارب الموضوعان خصوصاً في سفر حواء ولكنه يختلف عن كتاب مارك توين في أنه يربط الحادثة التاريخية بالواقع الحالي بين المرأة والرجل. ففي حين تبقى حواء توين معجبة بنفسها وتشكو عدم اهتمام ادم بها ، تتحدث حواء صليبي عن إهمال المرأة قديما وحديثاً ، بحيث أصبحت “مجرد جارية”.ويلتقي النصان على أهمية الاعتناء بالرجل. يقول توين على لسان حوّائه:
“وفي أعماقه هو طيب القلب، وأنا أحبه من أجل ذلك. ولكني أستطيع أن أحبه ولولم يتحلّ بهذه الصفة، إنه إذا ضربني أو أهانني فسأستمر على حبه، وأنا أعلم هذا أيضا،إنها على ما أظن مسألة جنس!”(ص 41) ويقول الصليبي على لسان حواء: “ووصيتي لبنات جنسي تقديس رجالهن بأجسادهن، واللوذ بهم في الشدّة” ( ص 80).
ثانياً : في البعد الديني يظهر أثر الكتاب المقدس واضحاً في كتاب الأستاذ صليبي، في غير موضع من الكتاب، بصورة مباشرة كما في قول الكاتب: “من له أذنان فليسمع”(ص 22)، وفي تسميات أقسام الكتاب: أسفار، أو بصورة غير مباشرة كما يظهر في بنية التكرار : تشبه (ص 58، 59) وهي شبيهة بالقسم الخاص بأمثال الإنجيل : يشبه ملكوت السماوات عشر عذارى…أو في بنية الجملة: “من هو قريبي”؟ الواردة في الإنجيل، فيسأل الكاتب صليبي: ” من هي امرأتي؟ أمّا مدينة الله التي يسعى لبنائها على الأرض فهي نفسها المدينة التي تحدّث عنها القديس أوغسطينوس في كتابه: مدينة الله. يقول الأستاذ صليبي في وصف الثورة إنها “أنماط بشر ينقلبون على ذواتهم للخروج بها من مدينة قيصر إلى مدينة الله.(ص 61) ويقول القديس أوغسطينوس: “حبَّان بنيا مدينتين: حب الذات حتى احتقار الله بنى المدينة الأرضية، وحبُّ الله حتى احتقار الذات بنى مدينة الله”.
كتاب آدم للأستاذ إيلي صليبي هو كتاب الفكر الديني المتنوّر الذي يسعى لإخراج الإنسان من قوقعة التعصب الطائفي والمذهبيّ،إنه كتاب الارتقاء بالإنسان إلى مصاف الله، من أجل العودة إلى صفائه ونقائه. وهو كتاب تمجيد المرأة، حوّاء ، وحماية حقوقها واحترام إنسانيتها ” أمّ الحياة وعلّة الوجود”(ص 77). كما أنه كتاب ذو نفس جبرانيّ حين يحدّثك عن المحبة والزواج (ص 90-91) ولكنه يتجاوزه ليتحدّث عن الخيانة والسرقة والعدل والقدر والقضاء. كتاب يصبح فيه آدم مسيحا ثانياً يؤسس لشريعة جديدة تجعل السماء تبدأ على الأرض.يقول الصليبي:”والحق أقول لنفسي، أنا آدم الأول والأخير، سُنّ من الشرائع كلّها شريعة لك واحدة، وليكن ضميرك ناموسك.”(ص 95).
أستاذ صليبي ، جعلت آدم ناطقاً باسم الأرض والسماء، ومدافعاً عن كرامة الإنسان والأشياء،في مواجهة العدم والنفي والعزل ، أمام العدالتين الإلهية والإنسانية. والأهم من هذا ، أيقظت في قلوبنا رجاء جديداً بالقيامة والتحرر من الخطيئة والموت، فعاد مسيحك إلى الأرض ليعيد الحق لأصحابه، الطوباويين البسطاء، في الفردوس الأرضيّ.
****
(*) بالاشتراك مع aleph-lam
http/www.georgetraboulsi.wordpress.com