د. حيدر إبراهيم علي (*)
بشرت التيارات الفكرية من وضعية ومادية وعقلانية منذ القرن التاسع عشر بما سمّته «أُفول الدين» بسبب التطورات الفكرية والمادية التي اجتاحت العالم. ومن هنا نشأ العداء بين الحداثة والأديان عموماً، على إعتبار وجود رؤيتين متناقضتين للعالم يصعب التوفيق بينهما: إنسانية-دنيوية في مقابل غيبية-ماورائية. وكانت عداوة غير الأوروبيين، ومن بينهم المسلمون، للحداثة أشد ضراوة بسبب توظيف الحداثة في الهيمنة على العالم الإسلامي، إضافة إلى صعوبة فك الإرتباط بين الحداثة والتغريب.
صحيح أن مصدر الحداثة الأول هو الغرب، لكن الحداثة تحولت تدريجياً الى تراث إنساني عام. هذا في حالة الاتفاق علي أن مكونات الحداثة هي: الحرية والفردية والعقلانية ومركزية العلم والتكنولوجيا في الحياة.
يمكن إرجاع العنف الحالي والذي أوصل العالم العربي الإسلامي إلى الرعب الداعشي الراهن، للفراغ الفكري الشامل، والذي مهد له تدهور مادي تمثل في الإفقار والبؤس وتدهور نوعية الحياة. وتقع المسؤولية على عاتق النخبتين: الحديثة من يساريين وقوميين وليبراليين، والتقليدية من الإسلاميين بكل تنوعاتهم والمحافظين. ويُعتبر «تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام» محاولة لملء هذا الفراغ الفكري، بحسب رؤيته. فقد وجد الساحة الفكرية خالية تماماً، ولذلك لم يجد غير المقاومة العسكرية والأمنية، وبمبادرة خارجية.
وتقع المسؤولية الأكبر في هذا العجز على عاتق القوى الحديثة، لأنها رفعت منذ نصف قرن شعارات الثورة والتقدم، وتفردت بالسلطة في عدد من الأقطار المحورية، ووعدت الجماهير بالخبز والكرامة وتحرير فلسطين، كما قدمت نفسها طليعةً حداثية تحمل الأفكار الجديدة. وقد احتكرت هذه القوى وسائل الثقافة والإعلام، ولكن بقي تأثيرها نخبوياً واقصائياً، تاركة الجماهير للفكر المتخلف الذي نشرته الجماعات السلفية والتكفيرية بسهولة.
والآن تعود أشباح تلك القوى الفاشلة، محاولة احتكار ثقافة «التنوير»، واختطاف «المجتمع المدني» الوليد الذي حولته منصةً للنجومية، وأحياناً الارتزاق.
من الواضح أن شعوب المنطقة تعرضت لعملية نصب فكري وسياسي كبرى، أبعدتها عن دخول عصر الحداثة من أبوابه الواسعة. فقد خدعها الإسلاميون واليساريون بشعارات عظيمة مثل عودة «دولة المدينة» وتطبيق الاشتراكية، باعتبارها وسائل ناجعة للحاق بالعصر. لكنهم حولوا تلك الشعارات أفيونا لشعوبهم. فهي لم تظهر في سلوك أصحابها الشخصي، ولا في نضالهم، ولا على أرض الواقع حين حكموا في بعض الحالات. وقد ضيّعوا على الجماهير فرصة الإندراج في سيرورة الحداثة.
ومن مظاهر التصحر الفكري الذي خلفته تلك القوى توقف العديد من المجلات الفكرية التي كانت تزود الشباب بالمعرفة الرصينة. ويمكن المرء ان يعدد عشرات المجلات التي أختفت ولم تحل محلها أخرى جديدة، كما يتعثر عدد منها في الصدور المنتظم. فأين «الطليعة» و«الكاتب» و«الفكر المعاصر» و«دراسات عربية» و «الاجتهاد» و «أبواب» و «فكر» و «منبر الحوار»؟ وهذا مجرد تعداد عشوائي على سبيل المثال لا الحصر. والتوقف ليس دائماً بسبب الامكانيات المادية بل لأن الكثيرين من المثقفين لم يعد لديهم ما يكتبونه.
أمّا على مستوى المؤسسات، فاختفى كثير من الجمعيات العلمية وعلى رأسها «الجمعية العربية لعلم الاجتماع» والتي توفيت بلا مراسيم دفن لائقة. وتم إغلاق «المجلس القومي للثقافة العربية» في الرباط، وسكت «المعهد العالمي للفكر الاسلامي» من دون أن يختم مشروعه بأسلمة المعرفة. ولم نعد نقرأ إصدارات «مركز دراسات الإسلام والعالم» في تامبا بالولايات المتحدة. وأين نشاطات «رابطة العقلانيين العرب»، واذا تفعل «المؤسسة العربية للتحديث الفكري»، وكيف اختفى «مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية في العالم العربي»، وهل ننعى مجلته الرصينة «النهج»، وتراجُع «مراكز دراسات الوحدة العربية»، آخر القلاع المحترمة، بحيث صارت مجلته الفكرية تعج بترجمات استراتيجية وعسكرية، كما تخلى عن مبادرة «الحوار القومي-الديني» بعد أن خذله «إخوان» مصر.
وأخيراً أكمل الدهر مهمة التصحر الفكري، فقد غيّب الموت رموزاً مؤثرة، منها الجابري وأركون ومحمود العالم وجمال البنا والمسيري وأنور عبدالملك، والدوري، وهادي العلوي، والعفيف الأخضر، وآخرون.
لقد جاء زمن الإسلاميين على أنقاض النظم «الثورية» و «التقدمية»، لينكشف خواؤهم الفكري، فاكتفوا باللعب على عواطف الجماهير الجاهزة في الحشد والتجييش. وكشفت الحركات الإسلامية عن جسم ضخم بلا رأس، ولجأت للإنتقائية والبراغماتية في مواجهة الحداثة، فاتخذت، بلا استثناء، موقف الرفض التام أو القبول الجزئي. وهذا يعني عدم الإندماج الكلي في سيرورة الحداثة، وفي أكثر الحالات اعتدالاً، يكتفي الإسلاميون بانتقائية مستعصية على الاستمرار والثبات.
وعلى رغم طبيعة عصر العولمة الذي نعيشه، حاول الإسلاميون التحايل على التاريخ وواقع الحداثة، وظنوا أن من الممكن استعمال ادوات الحداثة نفسها في بناء نموذج قديم. وهنا وقعوا في أكبر مأزق حضاري حين حاولوا فصل الأدوات الحديثة عن العقل والفكر الذي انتجها. فقد غرقوا في أدوات الحداثة ومؤسساتها، ثم شعروا بالخطر من أن تجلب معها، بالضرورة، ثقافتها وطرق تفكيرها. وهنا لم يكن لديهم سلاح غير العنف وتخريب الحداثة والقضاء عليها لتقوم على أنقاضها «الدولة الإسلامية» التي قامت في السابق على أنقاض حضارات عظيمة، ولكنها مادية كالفارسية والبيزنطية. ووجدت قطاعات واسعة في العالم الإسلامي الحل في تبني نظرية صراع الحضارات عملياً، وقررت مواجهة هذا الواقع الذي لا تستطيع السيطرة عليه أو التكيف ايجابياً معه باللجوء الى العنف دفاعاً عن الذات.
وقد ساعدت مسيرة الأحداث منذ الستينات على صعود خيار العنف، نتيجة تراكم الاحباطات والهزائم وخيبات الأمل والتخلف. وهكذا هيمن العنف على كل مجالات حياتنا العامة: العنف اللفظي، والأسري، والاقتتال الأهلي. وصار الجميع جزءاً من منظومة العنف، والفرق في الدرجة فقط وليس في النوع. وهذا ما مهد لعنف «داعش» المفرط.
كان هذا على مستوى الممارسة، أما على جبهة الفكر الإسلامي، فطُرحت مفاهيم التجديد والإصلاح والاجتهاد بقوة. لكن العالم العربي فشل، بسبب غلبة السياسوي. فقد تصدى للتجديد حزبيون وفقهاء وقانونيون، فلم يظهر فيلسوف إسلامي مثل محمد إقبال أو سعيد النورسي. أما داخل المؤسسة الدينية، الأزهر مثلاً، فيدور بين حين وآخر، وغالباً مع تفاقم الأزمات، الحديث عن «تجديد الخطاب أو الفكر الديني»، ويتحمس المهتمون وتعقد الندوات وتدبج المقالات في الصحف. ثم تخفت الحماسة، ولكن بعد فترة تظهر الدعوة مجدداً وتتكرر الحكاية.
وهذا يدل إلى أننا لم نتقدم خطوة واحدة على طريق التجديد. أما المجددون من خارج المؤسسة فيتعرضون للابتزاز والتخويف، لأن تهمة الردّة والتكفير معلقة فوق الرؤوس، يصمت عن إدانتها وعن ابعادها من مجال الفكر حتى رجال الدين المعتدلون لأنهم قد يحتاجونها هم أنفسهم، يوماً ما. وهذا ما يسمح للداعشيين والمتطرفين بالتنافس مع بقية الإسلاميين حول نفس المرجعية الدينية غير التجديدية، والتصارع حول الميراث نفسه.
وأخيراً يلتقي الجميع في معاداة الحداثة، لكن «الداعشيين» يمعنون في التطرف بانتهاز الفراغ الفكري وغياب البديل المستنير أو الاجتهاد المقنع والمنتشر، فضلاً عن أجواء التردد والحيرة…
*****
(*) كاتب سوداني