د. زينب جلبي
مرت علينا في الخامس عشر من شهر كانون أول / ديسيمبر 2014، الذكرى السادسة عشرة لرحيل المؤرخ الجليل زبير بلال اسماعيل (1938-1998)، فقد أختطفه الموت وهو في أوج نضوجه الفكري وعطائه العلمي.
والمعروف ان الفقيد أسهم، على نحو فاعل، في تدوين تاريخ الكورد وكوردستان طوال ثلاثين عاماً، وتمتاز مؤلفاته التاريخية بالموضوعية والحياد العلمي بعيداً عن الأهواء والتحيز والآراء المسبقة. رحل عنا بجسده لكنه سوف يظل حياً في قلب وضمير كل مثقف كوردي شريف يدرك أهمية الدور الذي نهض به في احياء تأريخ أمته ووطنه.
وقد ألّف خلال حياته العلمية أكثر من عشرين كتاباً قيماً بين مطبوع ومخطوط، ونشر حوالى (250) دراسة تتناول تأريخ الكورد وكوردستان، على مر العصور، وقضية شعبنا العادلة وحركته التحررية وتراثه الفكري الخصب وتراجم لأبرزالعلماء الكورد الذين انجبتهم كردستان . وكان له حضور دائم في الحياة العلمية والثقافية الكوردستانية.
لقد كتب الكثير عن سيرة حياة الفقيد والأجواء العلمية التي نشأ فيها، وملكته الذهنية التي أهلته لاحتلال مكانة مرموقة بين المؤرخين الكورد المعاصرين.
كان الفقيد أول مؤرخ كوردي متخصص في التأريخ القديم ، وقد أدرك أن تاريخ الكورد وكوردستان القديم لم يكتب بعد، لذا كرس حياته كلها في سبيل الإسهام في هذه المهمة النبيلة. وقد لفت نظره خلال دراسته للتاريخ القديم أن مدينة أربيل العريقة كانت مسرحاً لأحداث عاصفة غيرت مجرى التاريخ في المنطقة ولكنها – أي مدينة أربيل- لم تحظ بعناية كبيرة من قبل المؤرخين المسلمين والمستشرقين الأجانب ولم يكرس لتاريخها كتاب مستقل. صحيح أن ثمة بعض الكتب التي تحمل اسم (تاريخ أربيل) لعل أشهرها (تاريخ أربل) لأبن المستوفي – وهو سفر جليل، عظيم الشأن، ولكنه ليس كتابا في التأريخ كما يتبادر للذهن لأول وهلة، بل إنه مكرس لتراجم العلماء والأدباء والشعراء الذين زاروا كوردستان وخاصة مدينة أربيل في العهد الأتابكي.
تراجم أعلام الكورد
أفرد المؤرخ الراحل دراسات معمقة لعدد كبير من العلماء والمؤرخين الكورد مشيداً بهم إشادات رائعة، ولقد أراد بدراساته تلك، أن ينصفهم وأن يوفيهم حقهم من الثناء والإعجاب كما ابتغى، أن تتخذ الأجيال الكوردية منهم المثال والقدوة الحسنة، فيترسموا خطواتهم ويمضوا على نهجهم.
ولعلنا نتذكر كتابه الشهير “ابن خلكان” الذي صدر في بغداد عام 1979. وهذا الكتاب هو أول كتاب لمؤرخ كوردي عن هذا المؤرخ الكلاسيكي الشهير، حيث أثبت المؤرخ الراحل، في كتابه القيم، أن ابن خلكان- أربيلي المولد والنشأة، وأنه وأسرته ينتسبون إلى إحدى القرى في منطقة أربيل.
أما كتابه (علماء ومدارس في أربيل) الصادر في عام 1984 والذي كرسه للحديث عن دور العلم في أربيل وسيرة أهم علمائها، فقد أصبح مصدراً مهماً وأساسياً لكل من كتب بعد صدور هذا الكتاب وحتى يومنا هذا ، شيئا عن علماء أربيل ودور العلم والعبادة فيها.
كما ألف كتاباً رائعاً وممتعاً عن أحد أبرز شيوخ الصوفية في كوردستان وهو الشيخ جولي (محمد ثناء الدين بن مصطفى بن الحاج عمر الاربيلي النقشبندي) وقد صدر الكتاب في أربيل عام 1989.
ولما كانت المصادر عن هذا الشيخ الصوفي الجليل شحيحة، إن لم تكن معدومة، فقد لجأ الفقيد إلى تتبع آثار الشيخ جولي ميدانياً، واستقصاء المعلومات عنه في ثتايا مخطوطات المساجد وروايات أقارب الشيخ من المسنين وما يحتفظون به من مخطوطات ومستندات، مما له علاقة بالشيخ، وتتبع نسبه ومصادر ثقافته وتأثير مدرسته الصوفية وغير ذلك.
ونتيجة لهذا الجهد الميداني الكبير تجمعت لديه معلومات وافية أصبحت محور كتابه عن الشيخ جولي، وهو الكتاب الوحيد عن هذا الشيخ المشهور جداً في كردستان عموماً، وأربيل خصوصاً. والجامع الذي يحمل اسمه اليوم يقع في قلب مدينة أربيل وكذلك الساحة المسماة بأسمه قرب هذا الجامع . وقد قامت وزارة الأوقاف في كردستان بأعادة طباعة ونشر هذا الكتاب في عام 2002.
كتب الأستاذ عدنان النقشبندي، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في حكومة اقليم كردستان آنذاك مقدمة قيمة لهذا الكتاب نقتطف منها ما يلي:
” حضرة الشيخ محمد ثناء الدين بن مصطفى بن الحاج عمر الأربيلي النقشبندي الشهير بـ ( الشيخ جولي) الذي يدوي اسمه في أسماعنا كل حين ، ويتبرك الناس بأعماله الصالحات ويؤمون الجامع المسمى بأسمه لأداء الفرائض أو احياء المناسبات، يعود الفضل في تقصي المعلومات المتناثرة عن حياة ومناقب الشيخ الجليل واستجلاء حقائق حياته وسيرته الى المؤرخ الجليل زبير بلال اسماعيل، الذي قضى معظم سنوات حياته في البحث والتحقيق ليدون تأريخ مدينته وشعبه الكوردي .. “
ومن الدراسات المهمة التي نشرها الفقيد هي الدراسة المكرسة لسيرة حياة وآثار العالم الكوردي الشهير( ابن ادم ) المنشورة في مجلة المجمع العلمي الكوردي، التي كانت تصدر في بغداد في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي.
احتلت سيرة العلماء الذين أنجبتهم أربيل مكانة مهمة ضمن أعماله العلمية، حيث يشير العديد من المؤرخين والكتاب الذين كتبوا عن سيرة ومؤلفات الراحل الجليل، أن ثمة مؤلفاً ضخماً من ثلاثة أجزاء –ما يزال مخطوطاً- يتناول سيرة المئات من أعلام أربيل، من العلماء والمفكرين والادباء والشعراء والموسيقيين وغيرهم. ولعل هذا المؤلف هو واحد من أكبر وأهم مؤلفات مؤرخنا الذي ينتظر النشر.
واهتم الفقيد اهتماما ملحوظاً بتاريخ الإمارات الكوردية، وله كتاب مخطوط عن إمارة الكورد الهذبانية انتهى من تاليفه في عام ،1978 وقد حاول نشره، إلا أن الرقابة منعت ذلك، وكتب الرقيب على المخطوط (يمنع نشره كلا أو جزءا داخل العراق وخارجه)، ولكن إرادة الفقيد كانت أقوى من مقص الرقيب، فقد نشر خلاصة كتابه المذكور في مجلة كاروان في منتصف الثمانينات.
ومن أعماله المهمة، بحوثه المعمقة والمتعددة عن (امارة سوران) التي تناول فيها، بالدراسة والتحليل، نشأة الإمارة السورانية وتطورها ونظام الحكم والإدارة فيها، وعلاقاتها الخارجية، وشخصية الأمير المنصور محمد باشا الرواندوزي. ولابد من التنويه هنا بأن الفقيد استطاع، عن طريق البحث والتقصي، العثور على وثائق أصيلة ومهمة عن إمارة سوران، وكان طريح الفراش عندما كتب دراسته المهمة الموسومة (امارة سوران، وثائق جديدة في نهوضها وسقوطها) التي نشرت بعد وفاته بعدة أيام في مجلة (زاكروس) الصادرة في أربيل عن وزارة الثقافة في إقليم كردستان عام 1998.
واحتلت الحركة التحريرية الكوردية مساحة واسعة ضمن بحوثه ودراساته، وكان أول من لاحظ الطابع القومي لثورة الشيخ عبد السلام البارزاني وثورات بارزان اللاحقة .وقد صدر كتابه ” ثورات بارزان” في خريف عام 1998 أي قبل بضعة أشهر من وفاته، وهو أهم كتاب صدر لحد الآن عن هذه الثورات.
وفي هذا الكتاب يقيم المؤلف عالياً ثورات بارزان ودورها في الحركة التحررية للشعب الكوردي في كوردستان العراق حيث يقول:
” وقد شاءت الأقدار أن تخطو بارزان خطوات واسعة إلى الأمام حين تبوأ قيادتها وقيادة الشعب الكوردي الملا مصطفى البارازني ، الذي وحد كلمة الكورد وحقق للشعب الكوردي مكاسب قومية هامة، ورسخ أسس الحركة التحررية الكوردية لمواجهة تحديات المستقبل بنضاله المخلص الدؤوب وبنكران ذات قل نظيره. لقد جعل كل ذلك من الملا مصطفى البارازاني قائداً فذا للشعب الكوردي وهويته في العالم، ووضعه في مصاف أبطال وعظماء التاريخ، بل أصبح مقتدى شعبه في نضاله القومي على توالي الأيام والسنين”.
وكتب الفقيد دراسة مهمة عن الأهمية الستراتيجية لمصاصر والمثلث الحدودي بين إيران والعراق وتركيا، والدور الذي لعبه في تاريخ الكورد والمنطقة ، نشرت أجزاء منها في جريدة (خبات) عام 1997.
وكان مهتما بكل ما يتصل بالتراث الثقافي الكوردي والهوية القومية للشعب الكوردي، وعندما حاول الشوفينيون، بعد انتكاسة آذار1975، إنكار الهوية القومية والشخصية الثقافية المستقلة والمتميزة للكورد، أصدر كتابه الموسوم (تاريخ اللغة الكوردية) حيث أثبت مستنداً الى الشواهد التأريخية وخصائص اللغة الكوردية بأن هذه اللغة الجميلة لغة عريقة ومستقلة وقد ترجم الكتاب إلى بعض اللغات الأجنبية…
وكان الفقيد يتابع باهتمام بالغ الحركة الثقافية الكوردية المعاصرة داخل كوردستان وخارجها، وكتب العديد من الدراسات والمقالات عن هذه الحركة، نشرت في مجلة “الثقافة” البغدادية وغيرها من الصحف والمجلات الصادرة باللغتين العربية والكوردية في السبعينات والثمانينات.
وقد ترك الفقيد (14) كتاباً مخطوطاً نشر منها منذ وفاته ولحد الآن كتابين، أولهما تحت عنوان (الأكراد في كتب البلدانيين والرحالة المسلمين في العصور الوسطى).
أما الكتاب الثاني (تاريخ اربيل) الذي صدر في أوائل عام 1999 بمبادرة من الشهيد فرنسو حريري وضمن منشورات مجلة (هولير) الغراء.
وقد عقدت وزارة الثقافة في الإقليم يوم 25\ 2\ 1999ندوة علمية لتثمين وتقييم الكتاب، وتكريم ذكرى الفقيد وجهوده المثابرة لإحياء وتوثيق تاريخ الكورد وكوردستان. وكانت هذه الندوة هي الندوة الأولى من نوعها في كوردستان، وقد اهتمت بها الأوساط العلمية والثقافية، ونشرت تفاصيلها في وسائل الإعلام.
وقد وصف السيد وزير الثقافة (انذاك) الكاتب والسياسي الراحل فلك الدين الكاكائي كتاب (تاريخ اربيل) بأنه أهم كتاب عن تأريخ أربيل على الإطلاق، ودعا إلى ترجمته إلى اللغة الإنكليزية واللغات الأخرى، لأهميته في تعريف الكورد وتاريخه العريق إلى شعوب العالم، كما دعا خطباء آخرون في تلك الندوة إلى تدريس هذا الكتاب في مدارس ومعاهد الإقليم.
وكان أحد الخطباء هو الشاعر الشهيد مهدي خوشناو، رئيس اتحاد الأدباء الكورد ونائب محافظ أربيل في تلك الفترة، ومما ذكره في كلمته المؤثرة : “إن اسم الدكتور الوردي يقترن دائماً باسم بغداد، كما أن اسم زبير بلال اسماعيل يقترن دائماً باسم اربيل، فهما صنوان أو توأمان لا ينفصلان”.
والحق أن مؤرخنا الراحل كان يعرف مدينة (أربيل) التي ولد وترعرع في قلعتها التأريخية، معرفة عميقة وتفصيلية: يعرف تأريخها أفضل من أي مؤرخ آخر ويعرف دورها الكبير في صنع التاريخ، وأمجادها وبطولات ابنائها والأسر الحاكمة فيها عبر التاريخ، ويعرف أعلامها ومعالمها الحضارية والثقافية، ويعرف أحياءها وشوارعها وأزقتها ودور العبادة فيها ومدارسها وخزائنها من الكتب والمخطوطات.
حظي الفقيد، سواء خلال حياته أوبعد وفاته، باهتمام بالغ من لدن القيادة السياسية للإقليم والأوساط العلمية والثقافية في كردستان ، وتجلت مكانته العلمية الرفيعة خلال فترة مرضه على وجه الخصوص، إذ كانت الوفود الرسمية والشعبية تتقاطرعلى بيته، حيث يرقد مريضاً، للاطمئنان على صحته، كما زاره أبرز رجال الفكر والثقافة في الإقليم، وأحاطته باهتمام قلما حظي بها مؤرخ كوردي آخر.
وبعد رحليه نشرالعديد من المقالات التي تتحدث عن سيرة حياته ونتاجه العلمي، كما قامت القنوات التلفزيونية بتغطية واسعة لنبأ رحيله وللحفل التأبيني الذي أقيم بمناسبة مرور أربعين يوما على وفاته .
إننا إذ نحيي الذكرى السادس عشرة لرحيل المؤرخ الكبير زبير بلال اسماعيل، نضم صوتنا إلى أصوات علماء ومثقفي كردستان الذين نادوا، في مناسبات عديدة، بإقامة نصب تذكاري لمؤرخنا الجليل، وتسمية أحد المدارس أو المعاهد، وإحدى القاعات في الأكاديمية الكوردية وجامعة صلاح الدين باسمه، وإصدار مجموعة أعماله الكاملة.
ملاحظة: الساحة الرئيسية في مدخل مدينة أربيل على الشارع المئوي يحمل اليوم اسم المؤرخ الجليل زبير بلال اسماعيل.