مازن ح عبود
سمع ابراهيم، يهمس شاخصاً قبالة النافذة، قائلا: “بحثت عنك يا سيدي في كل المآدب الميلادية التي دعيت إليها أو أقمناها، فلم اجدك بين المدعوين، فقد قيل لي إنك لا تحب جلسات أصحاب البطون المتخمة يا سيدي!!
فتشت عن هدية لك بين الهدايا المتراكمة تحت شجرة الميلاد، التي تفرغ الجيوب، فلم أجد لك أو لأي فقير هدية يا سيدي. فالمتخمون يتبادلون الهدايا في عيدك والفقراء يتضورون جوعاً!!
فتشت عن المغارة، فوجدت دكاكين أقيمت على انقاضها. وقد حلّ مكانك يا طفلا أدهش الدنيا، كهلا مضحكا يرن جرسه داعياً الناس إلى الحوانيت لتحفيز الاستهلاك. والمجوس تركوا الساحة للتجّار، فبنوا محل المزود قصوراً سكنها البطر.
حزنت جداً يا سيدي إذ اكتشفت أنهم استبدلوك بمخلوق مضحك. استبدلوك بمهرج يلبس الأرجوان. تاريخه من كذبة، وقصصه من ربحية واستهلاك. صار العيد عيده. نهرته، فأسكتني أهلي. مسكين هذا العالم الذي فقد معنى الميلاد لا بل مسخه، فتغرب عن إلهه، فوقع في الفراغ حتى الموت”.
وخطا “ابراهيم” خطوات صوب المدفأة حيث كان يجلس كي يتامل النار تحمله بعيداً إلى الحياة، فالنار تلتهمه، تأكل ثيابه تمضغه وتعريه أمام الأيام. جلس هناك يتأمل في سر طفل المزود الذي ركع له حمار وبقرة. تأمل كثيراً، فتذكّر يوم أثلجت الدنيا، وقد كانت أمه في المستشفى، فجلس وقتها وأخوته ينتظرون عودتها في منزل الراهبات الذي يطربش تلك المدرسة، الرابضة قبالة الجبل، رهبة وخشية. عادت يومها وقد صلى لها بحرارة إلى الطفل الإلهي، فالاطفال يستمعون إلى بعضهم البعض ويتفهمونها. ولو لم يفعل، لكان حزن كثيراً.
كان ذلك قبيل الميلاد بأيام. وذلك الميلاد كان جميلا، و”برهوم” وإخوته فرحوا بعودة الأم وبالهدايا. شكر الطفل، الطفل الإلهي من كل قلبه في ذلك الميلاد، وقد شعر بامتنان شديد تجاه كهل الميلاد. امتنان تحوّل إلى صدمة بعد لقاء “حاجة”، جارتهم، التي استدعته على انفراد مبلغة إياه أنّ “بابا نويل” كذبة، وأنّ أهله هم من أحضروا له ولأخوته الهدايا، بدليل أن الكائن الاسطوري لا يزور بيوت الفقراء والمعدمين.
احتار “برهوم” وبكى يومها من كذب البشر وظلمهم. إلا أنه انتفض، وقرر أن يكسر الواقع، فتحوّل هو إلى “بابا نويل” لمرات، فراح يشتري من مدخراته للفقراء الهدايا. فاكتشف معنى الفرح الحقيقي النابع من العطاء، الذي يكسر الأنانية التي تحتجز الناس حتى الدمار والاحباط.
استفاقت النار في الموقد، وهو قد عاد من حيث أتى، من حاضره، كي يستكمل مناجاته إلى طفل المغارة. فهمس:”تطل عليّ يا سيدي هذا العام، وأنا خائف. تطل عليّ وأنا اشعر بأنّ الدنيا تكاد تسقط من حولي. سقطت ممالك كثيرة منذ ولدت. وأنت مازلت أنت يا طفل، تعود لتولد في بيت لحم كي تتجدد أزلية مملكتك الأبدية كما تقول الترنيمة. أما أنا فتوّاق أن أتذوق من شجرة الحياة التي تخرج من مغارتك الصغيرة كي أصير إلهاً”.
سمعت كل العناصر همسات “ابراهيم”. نعم، سمعت النار همساته، فأبلغتها إلى الماء التي نقلتها إلى الريح، والريح أودعتها عند قرميدنا سراً من اسرار كانون الميلادية.