تحت مظلة الطائف والاحتلال السوري… الطوائف اللبنانية وإلغاء الطائفية السياسية

المؤرخ والباحث د. عبد  الرؤوف سنّو

لا يزال بناء الدولة الحديثة في لبنان بنظام جديد ينفض عنه الطائفية السياسية ويرضى عنه الجميع، يشكل تحدياً كبيراً sinoللبنانيين. قبل ربع قرن، يوم جرى التوصل إلى “اتفاق الطائف” بتوافق خارجي وانصياع نيابي لبناني شبه كامل، شكل الاتفاق ميثاقاً جديداً لسلام اللبنانيين، فأعاد الوحدة السياسية إلى البلاد، والمؤسسات إلى نشاطها، وأبقى على التوزيع التقليدي السابق للرئاسات الثلاث الأولى بعد تحديد صلاحيات كل منها، ونقل مركز القرار السياسي من رئاسة الجمهورية إلى مجلس الوزراء، وجعل المناصفة بين المسلمين والمسيحيين في مجلسي النواب والوزارة.

وحسم الاتفاق كذلك الجدل حول مسألة هوية لبنان وانتمائه، واعتبر الطائفية السياسية “مرحلة انتقالية” إلى أن يتم إلغاؤها وفق خطة مرحلية، من دون الانتباه إلى أن الطائفية المجتمعية المستشرية في الجسم اللبناني تردف السياسة بكل أنواع التعصب ورفض الآخر والعيش معه. كما نادى الاتفاق بنزع سلاح الميليشيات، ووضع آلية لإعادة تموضع الجيش السوري بالتنسيق مع الحكومة اللبنانية، لا الانسحاب من البلاد إلخ.. وأسهم الاتفاق على الصعيد الاجتماعي في إعادة فتح المناطق وقنوات التواصل بين اللبنانيين، وعودة علاقاتهم الوظيفية والبروتوكولية والمهجرين منهم إلى قراهم وبلداتهم، سعياً إلى ترسيخ العيش المشترك.

إلا أن مرحلة ما بعد الطائف شهدت خرقاً للقوانين وانتهاكات للدستور اللبناني، وتفسيرات متضاربة لأجزاء من الاتفاق، وعدم تطبيق بعضه الآخر، أو انتقائية في تطبيقه. فكانت الحصيلة إفراغ الاتفاق من مضامينه الوفاقية. حدث هذا في ظل:

1- الاحتلال السوري الذي كبّل لبنان من خلال علاقات تعاهدية واتفاقيات، وعمل على عدم تطبيق “اتفاق الطائف” كي يُبقي جيشه في البلاد، ووضع اليد على المؤسسات الدستورية، واصطنع القوانين والمراسيم والرؤساء والحكومات والمجالس النيابية والإدارات التي أخضعها لمشيئته، وزاد من الشرخ المجتمعي بين الطوائف وفي داخل الطوائف، بهدف إبقاء سيطرته على لبنان وعلى علاقاته الخارجية، وممارسة سياسة النهب لاقتصاده.taef

2- إدراك القوى السياسية اللبنانية أن لا بديلاً من “اتفاق الطائف” في ظل المخاوف من انزلاق البلاد إلى حرب داخلية جديدة لعدم التوافق على بديل منه يرضى عنه الجميع. فاكتفت بتفسير “اتفاق الطائف” وسط توازنات وتجاذبات عرفها لبنان، كل لمصلحتها بشكل يخيف الآخر أو يستهدفه، ما أدى إلى ظهور بدعة “الترويكا”.

***

حددت المادة (ز) من بند الإصلاحات في “اتفاق الطائف”: أن “إلغاء الطائفية السياسية هدف وطني أساسي يقتضي العمل على تحقيقه وفق خطة مرحلية، وعلى مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين (1992)، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق هذا الهدف”. إن عدم تشكيل “الهيئة الوطنية” وتحديد جدول زمني لآلية عملها لإلغاء الطائفية السياسية، كان يعني أن الإلغاء قد يبدأ في أي وقت بعد الانتخابات النيابية الأولى بعد الحرب، أو لا يبدأ أبداً. لكن التاريخ المذكور شكل عاملاً مهماً لمواقف الطوائف الدينية بمختلف أطيافها من “اتفاق الطائف”، ومن مسألة إلغاء الطائفية السياسية.

لقد أرضى الاتفاق السنّة بسبب تقوّي صلاحيات رئيس مجلس الوزراء (السنّي) على حساب صلاحيات رئيس الجمهورية الماروني، الذي خسر الكثير من صلاحياته ونفوذه السابق. صحيح أن السنّة كانوا قبل حرب لبنان في العام 1975 ينادون بإلغاء الطائفية السياسية لتحسين تمثيلهم في النظام السياسي الممسوك مارونياً، إلا أنهم خشوا بعد الطائف من أن يصب إلغاء الطائفية السياسية في مصلحة الشيعة الذين كان حراكهم يتجه صعوداً منذ حرب لبنان للإمساك بالبلاد تحت شعار “ديمقراطية الأكثرية”.

وكان الشيعة من حركة أمل قبل ظهور حزب الله ينادون بدورهم بإلغاء الطائفية السياسية وبمشاركة أكبر في النظام السياسي ورفع الحرمان عنهم. ومع أن “اتفاق الطائف” لحظ إلغاء الطائفية السياسية كـ “هدف وطني”، إلا أن حزب الله أراد إلغاء الطائفية السياسية كـ “هدف إسلامي”، وهو تمكين الأكثرية الإسلامية من إقامة النظام الذي تريده. وقبل سنوات قليلة من “اتفاق الطائف” (1986)، اجتمعت شخصيات دينية شيعية لبنانية وبعض السنّة في طهران وصاغت دستوراً لدولة إسلامية في لبنان.arme syrien

من هنا، كان من المشكوك فيه أن تقبل غالبية المسلمين السنّة في حينه بإلغاء النظام الطائفي لصالح نظام إسلامي يجعل من الولي الفقيه مرجعيته. أما الدروز كأقلية، فرفضوا إلغاء الطائفية السياسية خشية تهميشهم في نظام أكثري. لذا، طالبوا قبل الطائف وبعده بمجلس شيوخ طائفي يكون برئاستهم، وألحوا أكثر من مرة على وجوب تطبيق البند المتعلق بإنشاء المجلس.

هكذا بقي حزب الله الوحيد في حينه المطالب بإلغاء الطائفية السياسية، ثم غابت هذه المطالبة، وانخرط الحزب في الحياة السياسية، وشارك في أول انتخابات نيابية في العام 1992، إلى أن استعيد الكلام الذي جرى تداوله خلال محادثات الطائف عن “المثالثة”، التي يجري الحديث عنها اليوم من وراء الكواليس، وتشكل ضربة قاصمة لمبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين الوارد في الدستور اللبناني.

قبل حرب لبنان، ربط المسيحيون بين إلغاء الطائفية السياسية (المطلب الإسلامي) وعلمنة المجتمع اللبناني لتخويف المسلمين. وكان المسلمون، سنّة وشيعة، يرفضون العلمنة حفاظاً على شرعهم، في حين رحب الحزب التقدمي الاشتراكي بالعلمنة في برنامجه السياسي. وبعد الحرب، وفي دولة ما بعد الطائف، أصبح المسيحيون يرفعون الصوت عالياً رافضين إلغاء الطائفية السياسية، كي لا يتحولوا إلى أقلية مضطهدة أسوة بالمسيحيين في البلدان العربية، وذلك في ضوء غياب ثقافة الاعتراف بحقوق الآخر والأقليات من قبل الأكثرية الإسلامية. وتعززت مخاوف المسيحيين على حضورهم السياسي والاقتصادي والحضاري بفعل استهدافهم من قبل النظام السوري وأتباعه. فكيف يوافق المسيحيون على إلغاء الطائفية السياسية، وهم يعايشون مناخ استهدافهم من خلال:

تضعضع معسكرهم بعد الحرب، نتيجة تراجع دور رئيس الجمهورية الدستوري والانقسامات بين زعاماته، بعدما خسر معظمهم عن طريق الوفاة أو النفي أو الاغتيال أو السجن.

– التعيين السوري الاستنسابي في العام 1991 للنواب في المجلس النيابي المنتخب في العام 1972 للمناصب النيابية المستحدثه على أساس 108 مقاعد، والمراكز التي شغرت بوفاة نواب.

– قانون الانتخاب (تموز 1992)، الذي رفع عدد النواب إلى 128 نائباً بشكل مخالف لاتفاق الطائف، فجرى توزيع المقاعد الـ 20 الإضافية بطريقة غير متساوية على مناطق البلاد. فقاطع المسيحيون الانتخابات، وجزئياً في العام 1996.

– تقسيم المحافظات وفق قانون انتخابات جائر وبشكل مخالف لاتفاق الطائف لتهميش القيادات المسيحية الأساسية والإتيان بمسيحيين منتخبين مروضين بأصوات المسلمين، وتمكين أزلام سورية من المسلمين من الوصول إلى الندوة البرلمانية ومجالس الوزراء.

– بدعة الترويكا التي ظهرت بين الأعوام 1992 و1998 برعاية النظام السوري، وقامت على المحاصصة، يؤججها التناحر الطائفي والمناكفات والانكفاءات المتكررة. وكان يكفي أن يتفق الشريكين السني والشيعي في الترويكا، لكي يظهر الشريك المسيحي الحلقة الأضعف والمستهدف بالتهميش.

– مرسوم التجنيس للعام 1994 الذي طُبق من دون مراعاة لهواجس المسيحيين ومصالح البلاد العليا، فزاد من الخلل في الديموغرافيا الطوائفية بمنح الجنسية لمسلمين بنسبة 68% والمسيحيين بنسبة 32% محسوبين على سورية وأتباعها اللبنانيين، بالتزامن مع تصاعد الهجرة المسيحية إلى الخارج، التي أدت عملياً إلى تنامي ظاهرة بيع أراضي المسيحيين إلى مسلمين وعرب، ما زاد من الشرخ الاجتماعي وعزز الطائفية المجتمعية.

– قرارات الإعلام المخالفة للقوانين، ومنها إقفال محطتي “نيو تي في” و”أم تي في” في العامين 1997 و2002، عندما أصدرت حكومة الحريري، مدفوعة من السوريين، مراسيم الإعلام لتقييد الحريات الإعلامية، وتقليص حرية الصحافة والإعلام المرئي.

– تخويف قيادات إسلامية للمسيحيين بإلغاء الطائفية السياسية، وذلك لترهيبهم وترويضهم وابتزازهم، وجعلهم أكثر خضوعاً للهيمنة السورية (تصريح نبيه بري في مناسبتين 1994 و2001),

إن الحديث عن إلغاء الطائفية السياسية لم يكن جاداً في أي وقت من الأوقات من قبل القيادات الطوائفية لغياب التوافق حوله، وقد استخدم من قبل المسلمين في أوقات التجاذبات السياسية. ومنذ منتصف التسعينيات، تراجع هذا الخطاب ولم يُستعمل سوى لمرتين من قبل الرئيس بري في العامين 1994 و2001. ومن المؤكد أن إلغاء الطائفية السياسية استخدم فقط كفراغة لترهيب المسيحيين. حتىأن النظام السوري لم يكن في مصلحته أن تُلغى الطائفية السياسية.فالخلافات الطائفية بين اللبنانيين هي التي أفسحت في المجال له للتدخل في البلاد قبل احتلاله للبنان وأن يمسك بالطوائف بعد “اتفاق الطائف”. أما أن تُلغى الطائفية السياسية، فمعنى ذلك توافر إمكانية توحد اللبنانيين والاستغناء عن “خدماته”.

*****

كلام الصورة

1- سياسيون  لبنانيون شاركوا في  اجتماعات اتفاق الطائف

2- الاحتلال السوري للبنان

*****

(*) جريدة النهار- الملحق 27 ديسمبر 2014

اترك رد