الروائي واسيني الأعرج
سنة تمضي وأخرى تتبعها. وأنت تكبر فيّ، في منافي الروح وتؤنسها. سنة تأتي وأخرى تنتظر وبحرك بحري، ولونك لوني، وحقول البرتقال تحتل كل عطري. كم كنتٌ وحيدة قبل مجيئك محملا بالياسمين والخزام وعود النوار البلدي. سنة تهرب وأخرى تستنجد بي، فكيف لي أن لا أراك وأنت أنا؟ كيف للظلمة أن تغرقني وأنت مَنْ أنبتني فيك.
كيف لا أنحني لك وانا مثقلة بك، مفعمة بتاريخك وبشعلة حنين أعادني أليك. كيف لي أن لا أضع يدي في كفك بعد أن ضاعت مني المسالك والسبل قبل أن أعبرها فيك. كيف لي أن لا أسكنك وأنت بيتي الأخير الذي منحني الدفء وألبسني الانتظار ودثرني في زمن العراء. عيني في عينيك ولا شيء أراه فيك غيري، وإذ أراني لا أراني إلا بك. منحتني قطرة الماء التي تسبق الموت عطشا، فسحبتني نحوي. قلت لي يوم جفت السواقي وتبعثر زجاج السماء، هيتَ لك أنا الذي فيك. انت من دس البحر في عيني، ثم أخذتني من كفي على حين غفلة، وركضتًَ بي على كل حواف الدنيا ولم أر شيئا غير قلبك وابتسامتك التي سرقتني من غفوة العاشقة.
يوم خانتني الألوان كلها، وتخلتْ عني موجة الشوق، سحبتٓ قوس قوزح ووضعتٓ لي زنّارا من حرير الغيم، وأوقدتَ شعلة القلب ولونته بالنار. يوم احتل السواد قيامة الحنين، لم أجد غير كلماتك التي قادتني نحو مزارع الشمس وأجنحة الفراشات التي مدت أجنحتها لتنوّمني على سرير الورد. كلمة واحدة تكفي لتوقف العواصف عند بوابات المهالك، وتنحني للصمت الذي فيها. كلمة واحدة تكفي أيضا لتدقف الزلازل عند منبت الشجر، وحرقة الغيم وتصالح الشمس بالمطر. كلمة ثالثة تكفي، قلها: أحبك، لتجعلني في عين الخوف أرقص عارية بلا أدنى سؤال. كل المسافات التي رافقتي تنام الان في كراسة البنفسج التي صنعتها من روق الغياب وانفس الفرح وركض التيه. هل رأيت يوما الغزلان تطير؟
أشهد أني رأيتها ولمستها ونمت في حضنها على متن غيمة الفرح. منحتني كل شيء. أعدت لي أنا فكيف لي أن لا ألتفت صوب الحائط عندما تمر بالقرب من البحر أو في الشارع المطل على نافذتي وقلبي؟ كيف لي أن لا أراك وأنا ارى ما لا ترى فيك. طفلا لم يمت. رجلا لم يكبر. امرأة ظلت واقفة تحت المطر والحر وثقل الغيم. يد في ملمسها شيء من روح الله ونفس الملائكة.
كم من الكلمات أحتاج فقط لتفهم أن هذه الحفنة من الفرح والخوف ليست أنا فقط، ولكنها أيضا تجلّيك فيها. سأموت إذ ترحل يوم تسدل ستائر النور في عينيك، لا لأن بي شهوة القبر ولا فتنة المطلق، لكن لأني كلك حين تنسى بعضك، وبعضك حين ينساك كلك. سأسبقك نحو صمت النهاية لأكون فراشك وظلك، وأوقظك لأشركك أنفاسي وبقايا الشعاع الذي في عيني. لا تسألني كيف؟ لكني سأكونك: جسدك المتمادي في الغيّ والجنون، لغتك التي تخترق صمت القبر.
ضحكتك وشمسك حيث تغيب العصافير والغيم وقمم الجبال التي لونت طفولتك. كيف تريدني أن لا اراك يا هبل التفاصيل والقلب، وأنا إذ أصلي لقطرة الحياة الأخيرة، ينتابني الله فيك. حين أطلبه، لا اسمع صوتا غير صوتك يأتيني، لينبّهني أنك مازلتَ تغرس قدما في الحياة. دعني الان أغفو إذن، ربما لمحتك في الرعشة الأخيرة وأنت تركض نحو جوعي إليك.
******
(*) امرأة سريعة العطب، باريس، فوق الماء تحت الليل. ١٩ /١٢/ ٢٠١٤.