الأديب مازن ح عبود
كان عرس في الجبل المقدس. وما كان زمن الفصح. وابراهيم كان مدعوًا. فحلّ هناك. سمع أنغامًا وأجراسًا ونواقيس. رأى ما لا تراه عين، عادة، إلا نادراً. فقد قيل إنّ ضيفاً استثنائيا حلّ عليهم.
رأى غارًا منثورًا غطى الأروقة وأرضيات الكنائس. تاه في غيمة البخور الصاعدة إلى قمة الجبل حيث قيل إن عشرة رهبان يستوطنون العري، وقد بالت ثيابهم من شدة الطبيعة، حتى إنها ما عادت إلا آثارا. كانت الغيمة معطرة ومحملة بأدعية وصلوات. كانت الغيمة من ملائكة، كانت من قدسات.
وأبصر ابراهيم الجبل يتطلع بكبر إلى الغيمة المقدسة. علم أنّ فصحا داهمه وهو ينتظر الميلاد. احتار ولم يقل كلمة. قيل للجبل إنّ حبر إنطاكية وافى. أتى المكان يعتصر آلاما. فقد كانت أمته تنزف.
ابراهيم كان معه فعاينه واقفاً يدمع أمام أيقونة بواجب الاسئهال. سمعه يتمتم أمام الأيقونة كلمات سمعتها سيدة البوابة في إيفرون فاهتزّ للكلمات قنديلها.
كان ابراهيم في انخطاف. أدرك أنغاماُ، عبر في نهر الصلوات، فبلغ إلى حيث لا لزوم للكلمات. وكانت دموع، والله يهطل غيثًا.
ثمّ صرخ ابراهيم في حلمه: من أنت يا جبل الإغريق كي تعلّم الناس الإلهيات؟؟ أتكون إصبعا هطل من فوق، فصار معبر الكائنات؟؟ أتكون نغمة فاقت الكلمات؟؟ أيا جبلاً للصمت هطل عليه الندى نغمات، سلام عليك.
من أنت يا أرض ليست بأرض؟ من انت يا كيان ليس بكيان؟؟ هل تكون روح الجسد محصته الألوهة، فتحرر من السلطات والشهوات؟؟ أتكون امرأة عادت إلى ربها فقيرة كضالة، عطشانة كبادية، وعريانة كتينة؟
آثوس يا حلماً إلهياً، فيك أدركت بعضًا ممن هم صاعدون إلى فوق قليلا قبل أن يرحلوا.
آثوس يا صلوات تسلقت على جدران حتى القبة. فأكتست الحوائط ألواناً وانواراً لأناس أضحوا من فوق. أتراك من تكون في الأساس؟؟ أتكون أيقونة مكثت قرب بوابة قبل أن تهجر؟؟ أتكون بوابة من غيم، وطريقاً للسماء؟؟
قيل إن هنا السماء اقرب. قيل إنك لجة مشتعلة. آثوس يا ظلال أيقونات هجرت جمادها، وعانقت البشر للحظات. آثوس يا هدايا المجوس للملك. والملك عاد من حيث أتى وهداياه بقيت هناك.
وتابع متأملا عبر الشرفة: أجبل للقصص أنت يا موطن النسّاك والحكايات؟؟
يا جبلا، أعود إليه في كل مرة عطشانًا، وفقيرًا وصغيرًا. ابكي فيك طفلا،وملوحة دموعي تقتلني. كنت آمل أن تسمرني أمواج بحرك، وتحملني زرقة سمائك، وتشدني خضرة شواطئك إلى موانئ ابعد. إلا أنّ رمادك ظللني. ومياهك دخلت إليّ حتى الموت. ومن يموت حياً لا يدرك الموت.
آثوس كيف خرجت من تحت البحر جسرًا يصل الأرض بالسماء؟؟ آثوس، أعود اليك اليوم وقد تغيّرت أحوالي. غيّرت فيّ كثيرًا. كبرت كثيرًا منذ سنتين ونيف. فما عادت محبة الرؤساء تعني لي الكثير. ما عدت أرنو أن أكون منهم أو أجلس في مجالسهم. صرت أؤمن أكثر بلغة المحبة والتواضع القادرة على تغيير الكون. ادركت أنّ غالبية الرئاسات فارغة حتى الضجر، حتى القبور. ومن أفرغ نفسه تأتي روح الكون كي تملأه.
تطلع ابراهيم في مصباح يجاور جدرانية أضاءت المكان، فصلى لامرأته ولصبيه. صلى من أجل أخيه وأختيه وأترابه وأتراب زوجته. صلّى من اجل من قدم معه وأناسه. ثمّ كلم والدته المنتقلة حديثاً، فأجابته في صمتها قبل أن تختفي في عتمة ما بين الأنوار. راح يبكي على نفسه بكاء مرّا. فحمله بحر دموعه إلى نغمة في دير الصخرة، حمله إلى أيقونة. وجد نفسه مرميا أمام ايقونة البوابة والمصباح العجائبي يهتزّ. فالعالم لم يكن بخير. وفجأة سطع ضوء من مغارة. هناك وجد هدايا المجوس التي حملته إلى الطفل وامه. فالميلاد كان على الأبواب، وهو ما زال غير مستعد…