أ. د. جورج زكي الحاج
يقولون: ” الإعلام هو السلطة الرابعة” بعد السلطات: التشريعية، التنفيذية، والقضائية. وبسمّون الصحافة: “صاحبة الجلالة”. تسميتان متناقضتان. فكيف تسمح الملكة، صاحبة الجلالة، أن تكون سلطةً رابعةً في بلدها؟ وكيف تسمح السلطة الرابعة لنفسها أن تكون السلطة الأولى؟ أليس هذا تنطّحًا وبعض مغالاة؟
هذا التناقض رافقني مُذ كنت على مقاعد دراسة الحقوق (قبل دراستي الآداب)، ويوم كنت أعمل في الصحافة المكتوبة. وقد توضّح هذا التناقض عندما وقعت الحرب في لبنان في العام 1975 وما بعد، عندما برزت الصحافة سلطةً أولى، وباتت هي التي تُحدّد مسار الحرب، وترسم لها حدودها ومستقبلها. وقد ساهمت بعض الصحف في ارتكاب بعض الجرائم التي لا تُغتقر بحقِّ اللبنانيين والفلسطينيين في تلك الحقبة السوداء، من جرّاء الأخبار الكاذبة، أو المُضخّمة، أو من خلال إذكاء النعرات الطائفية، التي أجّجت الصدور وألهبت النفوس، وأكلت الأخضر واليابس ومن نشر صورٍ بشعةٍ ومُخيفة، من حروبٍ عالميةٍ، وبلادٍ بعيدة، واتهمت بها المقاتلين من الطرفين…
وقد شاهدت بعض هذه الصور المزوّرة في محرقةٍ للجيش الألماني في فرنسا، في الحرب العالمية الثانية، وتحديدًا في فرنسا، في منطقة جبال الـ VOSGES القريبة من مدينة ستراسبورغ… ويومها أدركت مدى الإجرام الذي ارتكبه مَنْ أقسم اليمين على قول الحقيقة، وعلى التفتيش عنها.
سلطة الإعلام
واليوم، قَويت سلطة الإعلام، واشتدت شوكته، بعدما أصبحت وجوهه مُتعدِّدةً… ولعلّ الصحافة باتت آخر هذه الوجوه، بعد دخول الإعلام المرئي ، والإعلام الإلكتروني والفضائي، بعد الإعلام المسموع… غير أن الإعلام المرئي، وأقصد التلفزيون، هو الأقرب، لأنه على صلةٍ مباشرةٍ مع غالبية الناس… وهنيئًا للوطن الذي يكون الإعلام فيه رزينًا، رصينًا، مُربّيًا، مُوجّهًا، وطنيًّا مستقلاً، يحمل قضية شعبه السياسية، والوطنية، والاجتماعيّة، والتربوية، ويجعل منه شعبًا سعيدًا بوساطة ما يُقدّم له من برامج متنوّعة… وويلٌ لبلدٍ يكون الإعلام فيه فوضى، مُرتهنًا، مُسيّسًا، مُتطيّفًا، مُتمذهبًا، هو للغريب قبل القريب، مُضلّلاً… يدخل الحرب، ويقع في لُجّة المؤامرة، عن وعيٍ أو عن غير وعي… فيساهم في تخريب وطنه، وشرذمة شعبه، أو في إلهائه وإغفائه عن القضايا الرئيسة، ويتحوّل الشعب إلى قطعانٍ همُّها المرعى والمأوى، وغير قادرةٍ على مقاومة الذبّاح… وبأسفٍ شديد أقول: هذه هي الحال التي وصلنا إليها في لبنان، خصوصًا في العقود الثلاثة الأخيرة. وليسمح لي أحبائي وأصدقائي الإعلاميون لأنني بدأت أشكُّ بقسمٍ كبيرٍ منهم.. وإن ما سأطرحه ليس مُوجّها إلى الجميع، وسائل وموظّفين، لكنه سيطال العدد الأكبر منهم.
عهد “بو طحين”
لم أجد، في كل ما قرأت، حالةً شبيهةً بالتي وصل إليها لبنان اليوم من استرخاءٍ على مستوى اللبنانيين جميعًا، مسؤولين ومواطنين، إلاّ في عهد “بو طحين” الأمير بشير الثالث، فالوطن مُحاصر بالطامعين، ومُكبّلٌ بالعملاء البائعين، وغارقٌ في الفساد والمُفسدين، وراكعٌ أمام جلاّديه من داخليين وخارجيين، ينوء تحت أحمال الملايين من غير أبنائه، حتى وصلنا إلى الخوف على الكيان برمّته، وبات الكلام على بقائه علنيًّا، وعلى ألسنة الكثيرين من أبنائه والمسؤولين، وهنا يبرز دور الإعلام الواعي، فإذا كان الشعب عاجزًا عن التغيير، وإذا كان المسؤولون في السلطة ضالعين وفاسدين… فمهمّة الإعلام هي تقويم الاعوجاج عند المسؤولين، واستنهاض الناس وتوعيتهم على القضايا الأساسية في حياة الوطن والمواطن… وليس المساهمة في إغراق الجميع، وجميعنا يعرف أن أكثرية الشعب اللبناني هم من معاصري الحرب القذرة، أو من أبنائها، ومن الذين أعمت الطائفية والحزبية والمذهبية قلوبهم وبصائرهم وبصيرتهم، فكيف إذا لم يتعلّموا وباتوا خُنَّعًا، يستسلمون للمدنية البرّاقة، ولا يعرفون من الثقافة الحقّة شيئًا؟
المؤامرة الكبرى
لا شكّ في أنّ المؤامرة الكبرى بدأت منذ عقودٍ، وهي تُدرك أن شعبًا مُتجذّرًا في التاريخ، ضاربًا في أعماق الحضارة الإنسانية، لن يموت بسهولة، لذلك يجب تقويض بنيانه من جهاته كلها. ونحن نعلم أنّ كلّ شيءٍ يمكن أن يُعوَّض، إلاّ البناء الفكري والثقافي، فهو يحتاج إلى وقتٍ طويل، لأنه بناء الإنسان الفاعل في الحياة. وهنا أجد نفسي أطرح الأسئلة التالية:
1 ــ أين هو لبنان الحركات الثقافية، والأندية الأدبية، والمجالس الشعرية، والمنابر النقدية؟
2ــ أين هو لبنان الذي كان غايةَ كلّ شاعرٍ عربي، أو أديبٍ أو مفكّرٍ، أو فنّان، ليعيش فيه، كي يُقال عنه : “عاش في لبنان”؟
3 ــ أين هو لبنان العظمة، لبنان بعلبك والأرز وبيت الدين؟ لبنان الصحافة الأدبية والدوريات والمجلاّت الفكرية؟
4 ــ أين هو لبنان مقاهي الأدباء والشعراء وكبار الصحافيين والفنّانين على أنواعهم؟
5 ــ أين؟ وأين؟ وأين…؟
لا شكّ في أنّ هذا قد مات، أو ربما ذهب إلى غبر رجعة… وهذا هو الجزء الأخطر من المؤامرة، تكسّرت الأقلام وأُحرقت الكتب، وأُقفلت الأندية والمجالس الثقافية، وحٌوِّلت مقاهي عكاظ إلى أسواق بيغال وسان جرمان، وتقرّر إنهاء جيلٍ كان يحمل لواء العصر الذهبي للثقافة اللبنانية… ولكي تكتمل اللعبة جيء “بالوتس آب” مؤخّرًا، هذا المرض العضال الذي أصاب شبابنا وأولادنا، وحتى الكبار منّا، خصوصًا الإناث، من سنّ العاشرة حتى سن الخمسين، بشكلٍ فوضويٍّ، يُسفر يوميًّا عن قتلى وجرحى في المناطق المختلفة… لأنه أخذ بعقول السائقين والمشاة على السواء.
الجريمة الكبرى
أمّا الجريمة الكبرى بحقِّنا جميعًا، فهي في برامج القنوات اللبنانية، وفي إذاعاتها، وكأن شيئًا لم يحصل في لبنان… ولن أتكلم على الصحافة لأنّ بعضًا منها، وهو عريق في الوجود، ما زال محافظًا على ما ء وجه الثقافة. وهنا لا بد من طرح الأسئلة التالية:
ــ أين هي وزارة الإعلام من هذا الانفلات الخطر؟ وأين هو دورها الإرشادي التنفيذي المسؤول؟
ــ أين هو المجلس الوطني للإعلام؟ وما هو الدور المنوط به غير الاجتماعات والرواتب والظهور؟
ــ ماذا تُخرّج الجامعة اللبنانية والجامعات الأخرى؟ وهل هكذا يكون الإعلاميُّ المُجاز؟ وهل تُخرّج الجامعات إعلاميين مُتطرفين، طائفيين، مذهبيين، مُحرّضين، وفي بعض الأحيان تافهين؟ فنحن اليوم نعيش على إعلام “الخبر العاجل”، من دون التفكير بما سيسبّبه من أهوالٍ ومخاطر.
أيُّ جيلٍ ينتظره الوطن، جيل عماده اثنان:
1ــ ” وتس آب” يشلُّ عقله ليلاً نهارًا، ويُوتّر له أعصابه، ويجعله خاملاً، لا مسؤولاً، ما همّه وطنٌ ولا مجتمعٌ ولا عائلة… وفي بعض الأحيان ما همّه نفسه.
2 ــ برامج تلفزيونية تافهة، لا هدف لها سوى أمرين:
ــ كسب الربح السريع ولو على حساب الناس والمجتمع والوطن.
ــ استكمال مراحل المؤامرة، وإلهاء الناس بسخافات وتفاهاتٍ وتقيؤات… لإبعادهم عن القضية الأساس، التي ربما تكون: بيع الوطن أرضًا وشعبًا وكرامة.
وإنّ عمليةً إحصائية بسيطة لعدد ساعات هذه البرامج التي تعرضها القنوات، تُبيّن صحّة ما أقول. فإذا افترضنا أن البثَّ اليومي للقناة هو خمس عشرة ساعة، لأنّ الساعات المتبقية من اليوم هي إعادة لتلك البرامج، فإن المُحصّل يكون على الشكل التالي:
ــــ 30% من ساعات البثّ هي برامج سياسية ونشرات أخبار. فالأولى أبطالها عدد من الذين أسموهم محلّلين سياسيين وخبراء استراتجيين، يتناوبون تباعًا على قناةٍ بعد أخرى، وكأنّ الله خلقهم ” وكسر القالب”، حتى بات واحدنا يكاد يعتقد أنّ هؤلاء الجهابذة يرسمون سياسة لبنان والمنطقة… والعالم. وأمّا الثانية فاجترار لأحداثٍ بشكلٍ رتيب، وببعض بهارات الاستفزاز والتأجيج و “الخبر العاجل”.
ــــ 30% برامج تُسمّى ترفيهية، وهي برامج تافهة، لا همّ عندها سوى طمر المخزون الثقافي، وإعلاء شأن بعض المتطفلين على الفن، واللجوء إلى التعابير البذيئة، والألغاز المشينة، والتلهّي بالأخبار الفارغة والنكات البائخة.
ـــ 15% مسلسلات مُملّة رخيصة، مترجمة، لا تُحاكي مجتمعنا، ولا تمتُّ إلى واقعنا بصلة، والقصير منها يُقارب المئة حلقة، ليدوم شهورًا.
ـــ 12% إعلانات ودعايات، يدفعها الشعب اللبناني، لأنها تنعكس سلبًا على ارتفاع الأسعار. كي يُعوّض صاحب السلعة أموال الإعلان الباهظة.
ــ 5% أفلام على بعض القنوات.
ــ 8% مقابلات صباحية، هي خدمة لأصدقاء الإعلاميين، تدور حول أمورٍ يعرفها الناس جميعًا، فهي لا تُقدّم ولا تُؤخّر.
ــ صفر% برامج ثقافية، أو فكرية أو أدبية، أو فنّية راقية، بحجّةٍ هي أقبح من خطيئة، مفادها أن الفكر والثقافة لا يجلبان الإعلانات للمحطة..! أليس هذا قمّة العهر؟ وهنيئًا لشاعرٍ أو لأديبٍ أو لفنانٍ راقٍ، له معرفة ببعض الإعلاميين، ليحكي عن نتاجه دقائق لا يتجاوز عددها عدد أصابع اليدين.
فأيُّ جيلٍ سينشأ؟
وهل ستبقى ذاكرته تعرف جبران ونعيمة والأخطل الصغير وأبوشبكة وعبدالله العلايلي وحسن كامل الصبّاح وآل تقيّ الدين وعمر فرّوخ وصليبا الدويهي ويوسف غصوب وأمين نخلة وصلاح لبكي ونجيب حنكش وعارف الريّس ورفيق شرف وجسر القمر وإيّام فخر الدين ومهرجانات بعلبك والأرز وبيت الدين وفيلمون وهبي ونصري شمس الدين وكركلاّ ةفهد العبدالله؟ وهل سيذكر هذا الجيل ، بعد فترةٍ، الرحابنة ووديع الصافي وفيروز وسعيد عقل ووجيه نحلة…. والعشرات غيرهم، ممن تركوا بصماتهم على جبين الفن والأدب؟
لبنان المتقاعس اللامسؤول
قال لي أحد الأصدقاء، ونحن نستمع إلى ندوةٍ أدبية حول نتاجٍ شعري لأحد الشعراء الواعدين، وقد جلسنا في المقاعد الخلفية من القاعة: ” تأمّل. هل تلاحظ شيئًا مميّزًا عند هؤلاء الناس؟” فقلت : “شعورهم البيضاء”، قال “هذا صحيح، هؤلاء هم الباقون من روّاد الفن والأدب والثقافة…. وعندما يرحل هذا الجيل، لن يعود هناك مَنْ يستمع إلى بيت شعرٍ، أو جملةٍ من الأدب… هذا إذا بقي شعراء وأدباء”. والمؤسف جدًّا هو أنّ واحدةً من وسائل الإعلام لا تأتي على ذكر الصنيع المولود.
ألا ترون معي أنّ هذا النوع من الإعلام، أو هذا المسار الإعلامي، هو لطمس لبنان الفكر والحضارة والثقافة، منذ قدموس حتى اليوم؟ واستبداله بلبنان المتقاعس اللامسؤول، اللاهي، الجاهل، الغارق في بطون مدنيةٍ صهيونيةٍ بات هدفها واضحًا؟
أيُّ جيلٍ سينشأ ويمكنه الحفاظ على الوطن والأرض والشعب والتراث، وأطفاله يعرفون المحطات الخلاعية، وقنوات العهر والدعارة، أكثر مما يعرفون عن الوطن وأدبائه وشعرائه، وفنّانيه ورجالاته في ميادين الحياة والعلم في لبنان وبلاد الاغتراب؟
إنّ هذا الكلام لا يطال الناس جميعهم، ولا يتناول الإعلاميين جميعهم، فهناك إعلاميون نفخر بهم وبجرأتهم وبعصاميتهم وموضوعيتهم، وقد أثبتوا جدارتهم على الساحة الإعلامية، غير أنّ ما يحزّ في نفسي هو أنّ الشعب اليوناني تربّى على أشعار هوميروس، كما تربّى الشعب الروماني على أشعار فرجيل، كما تربّى كثيرٌ من الأمم على تراث أبائهم وأجدادهم… فإلى أين نحن سائرون؟
في رأيي أنّ جيلاً وصل إلى ما وصل إليه الجيل اللبناني اليوم، هو جيلٌ لا يهتمّ بوطنٍ، ولا يحارب فسادًا… لأنّ روحه قد ماتت، وهل تستطيع قلّةٌ باقيةٌ من المفكرين والمخلصين والمقاومين والوطنيين الشرفاء، أن يُعيدوا إلى هذا الوطن رونقه؟
إنّ الأمل ضعيفٌ، لكنني سأبقى مُتشبّثًا به طالما بقيت حيًّا.
******
(*) بالاشتراك مع aleph-lam
www.georgetraboulsi.wordpress.com