د. مليكة معطاوي(*)
تعتبر الترجمة الأدبية ممارسة لنوع خاص من التواصل الثقافي والمعرفي يقتضي نقل نص أدبي أجنبي، يمتاز بطبيعة تخييلية، من لغته وثقافته الأصليتين إلى ثقافة ولغة جديدتين حيث سيواصل الحياة مع متلقين جدد لم يكتب لهم أصلا. على أن هذا الانتقال إذا كان تلبية لحاجة قائمة ومتواصلة في الثقافة المحتضنة، فإنه لا يتم دائماً بالسهولة والسلاسة المتوقعتين، وإنما تحفّه صعوبات وتترتب عنه مجموعة من الانزلاقات.
يؤكد إدمون كاري بأن الترجمة عمل صعب وخطير، ويتطلب فنية عالية، وليس تكرارًا حرفيًا أو مهارة عقيمة أو نقلا ميكانيكيا، فعبر الكلمات والعبارات التي تبلور عالما من الفكر والعواطف والوجود يقود المترجم قارئه لاكتشاف عالم جديد والدخول إليه. وتطرح الترجمة قدراً هائلا من القضايا والإشكالات التي نادراً ما تطرحها الممارسات الثقافية الأخرى، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بترجمة النص العربي القديم وتأويله، ولعلّ ذلك دليل على الدينامية الاستثنائية التي تتميّز بها ممارسة الترجمة التي رافقت الإنسان منذ القديم إلى الآن تلبية لحاجته للتواصل وضرورة التبادل والتعايش مع الآخر.
وبالرغم من أن الترجمة الأدبية مغامرة محفوفة بالمخاطر، فإنها ليست مستحيلة بدليل أن هناك العديد من الترجمات الأدبية الجيّدة التي تفوقت أحياناً على النصوص الأصلية. نأخذ كأمثلة على ذلك ترجمة الشاعر الفرنسي شارل بودلير لحكايات إدغار ألان بو، وترجمة ليرمنتوف لسيرفانتيس ورابلي، وترجمة دوستويفسكي لنصوص بلزاك، وترجمة تولستوي لقصص موباسان، وترجمة تورجنيف لقصص فلوبير…إلخ.
ولعلّ ترجمة الشعر العربي القديم تتطلّب امتلاك موهبة وحدس كبيرين لما يمتاز به من طاقة جمالية إبداعية تصوّرية كبيرة. ويلتقي كلّ من ريجيس بلاشير وجورج مونان بتبنّيهما لفكرة إمكانية الترجمة الأدبية شريطة أن تظل رهينة بمدى قدرة المترجم على مراعاة طرق الأداء اللغوي والاختلافات الحضارية من خلال إمساكه بدقائق الكلمة وحركة الفكر، والقدرة على إيصالها للقارئ، وهنا لا تبرز تقنية المترجم فقط، ولكن أيضا فنية المترجم وموهبته.
ولتسليط الضوء على أهمية الترجمة الأدبية ودورها الفعّال في تلاقح الثقافات، خصّصت الدكتورة حورية الخمليشي كتابها، “ترجمة النص العربي القديم وتأويله عند ريجيس بلاشير”، لمسألة الترجمة الأدبية ولأحد أقطابها الكبار رجيس بلاشير الذي تبنّى أصعب أنواع الترجمة، والذي يُعدّ برأي الباحثة من أنصار الحضارة العربية. عُرف بدعوته إلى الحرية والتحرّر، كما عُرف عنه شغفه بالأدب العربي القديم، خاصة وأنه قضى حياته متنقلاً بين المغرب والجزائر وفرنسا. وقد طرحت الباحثة مجموعة من الأسئلة المعرفية أهمها:
هل النص المترجم خيانة للنص الأصلي أم إبداع؟ ولماذا يضطر بعض القراء إلى الرجوع إلى النص في لغته الأصلية؟ وهل يفقد النص المترجم من العربية فصاحته وبلاغته التي له في لغته الأصلية؟ وهل يؤدي النص المترجم الدور الذي أراده له مبدعه في لغته الأصلية؟ وإلى أي حدّ نجح بلاشير في ترجمة تصوّر القراءة التي قدّمها للأدب العربي؟
وانطلاقاً من مصاحبتها للدراسات البلاشيرية، قراءةً وترجمةً، فقد طرحت أسئلة أخرى تتعلّق بالاستشراق ودوافعه وأبعاده، ومنها: لماذا هذا الاستشراق؟ ولماذا هذا الاهتمام بترجمة الأدب العربي؟ وما موقع هذه الترجمات في سياق حركة الاستشراق؟ وإلى أي حدّ نجح بلاشير في رسم صورة ثقافة وحضارة الآخر، وهي حضارة لا تتساوى مع حضارة المركز؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها حاولت الباحثة دراسة المترجمات الأدبية لريجيس بلاشير، وسلّطت الأضواء على ترجمته للقرآن الكريم، وترجمته لنماذج من الشعر والنثر بغية تقليص المسافة بين الممارسة والتنظير، ولتوضّح للقارئ بأن فعل الترجمة ممارسة نصّية مشروطة بضوابط الترجمة والتأويل، علماً أن الترجمة تأويل في الجوهر على رأي بول ريكور.
وقد قسّمت الباحثة دراستها إلى أربعة أقسام، حيث تناولت في القسم الأول، المعنون بترجمة النص العربي وتأويله عند بلاشير، مفهوم الاستشراق في فصلين، خصّصت الفصل الأول لمفهوم الاستشراق بشكل عامّ وذكّرت باختلاف كثير من الباحثين في تعريف هذا المصطلح تبعاً لمواقفهم، لكنّها ركّزت على تعريف إدوارد سعيد في كتابه الاستشراق الذي اعتبره كثير من النقاد أفضل ما كتب عن الاستشراق، والذي يعني به كلّ من يقوم بتدريس الشرق، أو الكتابة عنه، أو بحثه بتعبير إدوارد سعيد. كما وضّحت مدى اهتمام المستشرقين بترجمة النص العربي القديم وترجمة القرآن الكريم وبيّنت المواقف المختلفة والمتضاربة للنّقاد العرب من آراء هؤلاء المستشرقين، حيث أشاد بفضلهم طه حسين وزكي مبارك وتصدّى لهم رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين وآخرون.
أما الفصل الثاني فخصّصته للاستشراق الفرنسي والذي يُعتبر بلاشير أحد رموزه الكبار. فهو من علماء الاستشراق الفرنسي، الذين قدموا خدمة جليلة للمكتبة العربية، جاعلا من العلم والمعرفة همّه الأساسي، كما ترى المؤلفة بأن استشراق بلاشير لم يكن استعماريًا ككوستاف فون كرونباوم، ولم يكن متعصبًا كمرجوليوت، بل تميّز بحبّه وإخلاصه للتراث العربي فألف كتبًا قيّمة عن الأدب العربي، وترجم القرآن الكريم والسيرة النبوية، وكان مؤلفه عن شاعر العروبة أبي الطيب المتنبي، من الكتب العظيمة، التي عرّفت الغرب بأكبر شاعر عربي جرى السكوت عنه زمنا طويلا في الثقافة العالمية” (ص.7-8). فشرحت منهجيته في تعليم اللغة العربية للأعاجم، وموقفه من بعض القضايا الأدبية في دراسته وترجمته لتاريخ الأدب العربي.
وانتقلت الباحثة في القسم الثاني من الكتاب، المعنون بالممارسة النظرية عند ريجيس بلاشير، والمتكوّن من ثلاثة فصول، إلى رصد الممارسة النظرية عند بلاشير في ترجمته للقرآن الكريم في الفصل الأول، فتناولت مفهوم الترجمة عند بلاشير الذي تميّز عن غيره برصده للفرق الدقيق بين النقل والترجمة والتفسير والتأويل، ثم ذكّرت بالمراحل التاريخية لترجمة القرآن إلى اللغات الأوربية منذ أول ترجمة قام بها مترجمان من مدرسة طليطلة في القرن الثاني عشر الميلادي، إلى ترجمة صدوق مازيغ سنة 1980، مروراً بترجمة بلاشير التي ظهرت سنة 1948-1951، والتي تعتبر أكثر تميّزًا وأكثر تداولا باللغة الفرنسية حيث “شكلت مدرسة في حدّ ذاتها، إذ كان بلاشير يفضل، حسب جمال الدين بن الشيخ، التنظيم الوظيفي على حساب تركيب المعنى” (ص.55).
بعد ذلك تناولت قواعد ترجمة معاني القرآن إلى اللغات الأجنبية، فوضّحت منهجية بلاشير في تأويل هذه المعاني، ومدى اتباعه للقواعد، التي وضعها هو أصلا لهذه الترجمة. وقدمت في الفصل الثاني ترجمة بلاشير لروائع الشعر العربي القديم، فعرضت بعض آرائه ومواقفه من هذا الشعر، ورصده لمراحل تطوّر الشعرية العربية، كما عرضت المعايير الأساسية التي حدّدها بلاشير لدراسة الشعر العربي والولوج إلى جنته الخفية، خاصّة دراسته وترجمته لشاعر العروبة أبي الطيب المتنبي، التي رصد من خلالها تطوّر حركة النقد التي تناولت شعر المتنبي. فأبانت دراسته عن دورها الكبير في جمع وتقويم الحركة النقدية لشعر المتنبي.
ومن جهة أخرى، أبدت الباحثة رأيها في بعض القضايا النقدية المتعلّقة بالشعر كالعروض والأوزان؛ فعرضت تاريخ العروض العربي كما قدّمه بلاشير، كما تناولت علاقة العروض بالأوزان عند العرب منذ العصر الجاهلي، من خلال كتاب بلاشير “تاريخ الأدب العربي”.
أما الفصل الثالث فخصّصته الباحثة لترجمة النثر العربي الذي يعدّ، حسب بلاشير، “نظاماً إيقاعياً تعبيرياً سبق في ظهوره النثر الأدبي، ولم يكن هذا الشكل الجمالي هو الشعر العروضي، ولكنه نثر إيقاعي ذو فواصل مسجّعة” (ص. 94). وقد وضع بلاشير القواعد الخاصّة بترجمة النثر الأدبي استناداً إلى منهجية تحرّى فيها الكثير من الدقة والنزاهة العلميتين.
أمّا القسم الثالث من هذا الكتاب فيتضمّن الممارسة النصّية عند ريجيس بلاشير في ثلاثة فصول: النص القرآني، والنص الشعري، والنص النثري. وقد وضّحت الباحثة طريقة بلاشير في تأويل معاني النص القرآني، حيث ينطلق من كون القرآن “نصًّا متعاليًا، وتحفة أدبية رائعة تسمو على جميع ما أقرته الإنسانية وبجّلته من التحف” (ص. 100) ، كما أوردت نماذج من النص القرآني بترجمات مختلفة لتقارن بين بلاشير وغيره من المترجمين، على اعتبار أن كل مترجم تحكمه ثقافته ومرجعياته وبيئته وعوامل أخرى لا يسع المجال هنا لذكرها.
ورصدت الباحثة أيضاً، في الفصل الثاني، ترجمة بلاشير لنماذج من الشعر العربي القديم، كم اهتمت بترجمته لشعر المتنبي، وسجّلت إثر ذلك مجموعة من الملاحظات بخصوص تأويل بلاشير لشعر المتنبي. فرأت بأن هذه الترجمة “وإن لم تصل إلى عمق المكوّن الشعري للمتنبي، تبقى في بعدها الإنساني والجمالي والفني تمتلك بالرغم من نثريتها روح العالمية بلغة الآخر لتقتحم بها وجدان القارئ” (ص. 124).
كما عرضت الباحثة نماذج مختلفة من ترجمة الشعر العربي الذي استأثر باهتمام بلاشير، وبشعر المرأة، خصوصًا الشاعرات اللواتي أبدعن في غرض الرثاء الذي يعتبره بلاشير أجود شعر المرأة الذي ازدهر في القرن السادس الميلادي. وقد أشاد بلاشير في كل ذلك بالمرأة التي فرضت وجودها في المجتمع العربي شعرياً وثقافياً.
وفي الفصل الثالث تناولت اهتمام بلاشير بنماذج نثرية من أدب المقامة وأدب الأمثال، وعلم المعاجم والموسوعات والمخطوطات وعلم الجغرافيا، نظراً لقيمتها الحضارية، والإنسانية والتاريخية والفكرية.
وخلصت المؤلّفة إلى أن بلاشير مدرسة أدبية متميّزة في دراسة وترجمة التراث العربي القديم، وهي مدرسة ذات إشعاع عالمي في العالم العربي وغير العربي. فخصّصت القسم الرابع للمدرسة البلاشيرية في الأدب العربي، وقسّمته إلى فصلين.
جاء الفصل الأول للتعريف بنماذج من أعلام هذه المدرسة. أما الفصل الثاني فيتضمّن نماذج من امتدادات المدرسة البلاشيرية في الوطن العربي، فرأت بأن لهذه المدرسة دوراً كبيراً في تكوين العديد من الباحثين والعلماء من عرب ومستشرقين، سواء الذين تتلمذوا على يديه مباشرةنذكر منهم جون سوفاجي، وأندري ميكيل، وشارل بيلا، وإبراهيم الكيلاني، وأمجد الطرابلسي، وجمال الدين بن الشيخ، وصالح الأشتر. كما تعرضت لنماذج من امتدادات هذه المدرسة كإدريس بلمليح، وأحمد بوحسن، ومحمود المقداد وغيرهم.
واستنتجت المؤلّفة إلى أن “كل ترجمة هي ضرب من التأويل، وكل ترجمة من الدرجة الثانية أو الثالثة تأويل لتأويل. كما أن التفسير والشرح اللغوي لنص معين هو أيضاً ضرب من التأويل. ويبقى التأويل من حيث معناه تجاوزاً للشرح والتفسير”.
كما توصلت إلى أن “مصطلح التأويل عند العرب أكثر دلالة من مفهوم الدلالة الفرنسية ، (Interprétation) وأن كل قراءة غير تأويلية لنص أدبي هي قراءة مغلقة” (ص. 186). فالنص حينما يصل إلى القارئ يصبح ملكاً له، فيفهمه ويؤوّله انطلاقاً من تكوينه الثقافي. فالقراءة التأويلية المفتوحة تخدم النص والمؤلّف والقارئ. والنصوص العربية القديمة، برأي بلاشير، نصوص مغلقة لعجز المترجِم عن التعبير عمّا تمتلكه هذه النصوص من طاقة تصوّرية إيحائية جمالية، مؤكّدة في كل ذلك بأن الاستشراق ليس دائماً خصماً للمعرفة لأن ثقافة الإبداع عند علماء الاستشراق أكثر حضوراً من ثقافة الغزو الفكري والحضاري. فقد لعبت مصنّفات بلاشير دوراً كبيراً في تعريف العالم الأوروبي بالتراث العربي الإسلامي. وترجمات بلاشير “من الترجمات القيّمة، سواء في منظورها أو في مداها أوفي رحابة فكر مؤلفها … فكان بذلك الوجه المشرق لقراءة مبدعة للأدب العربي القديم من أجل أدبية الأدب لا غير” (ص. 188).
*****
(*) كلية الآداب والعلوم الإنسانية- الرباط