سيّد العمامة

الباحث حنّا عبود

رحل العلّامة هاني فحص. فُتحت مجالس التعازي في كلّ لبنان وليس في منزل الفقيد وحده. ولم تفتح منظّمة التحرير hana-aboud-1مجلس عزاء لأنه مُنح الجنسية الفلسطينية فحسب، بل لصدق موقفه الأدبي، وإخلاصه في نصرة المظلومين. مجالس العزاء، من سنّة وشيعة وبيوتات نبيلة شاركت في تحيّة الوداع لهذا الكبير، وليس آل الأمين وآل شمس الدين فقط.

ولو أن الموصل في وضع آمن لأسهمت سنّتها (التي استدعته قبل المعاناة فزارها للمشورة) ومسيحيّتها وكرديّتها وتركمانيّتها ويزيديّتها في وداع هذا الراحل الكبير. ويجد متصفّح الشبكة العنكبوتية مشاركة من كلّ أرجاء العالم تقريباً تعبيراً عن خسارة فادحة برحيله، من الوطن الصغير حتى العالم الكبير.

نشأ السيّد هاني فحص في لبنان. وفي هذا المحيط اعتاد على الحرّية واعتدّ بالحرية، فقد كان يتناوب عليه أساتذة من جميع الطوائف والمشارب والأحزاب. واكتملت ثقافته في النجف بأساتذة متنوّعي الطوائف أيضاً. والنجف أكبر مؤسّسة هيّأت مناخ النزعة اليسارية، مثل معظم الأديرة في زمن النهضة الأوروبية. واليسار الذي نعنيه هو الفكر الماركسي قبل غيره، فمعظم الماركسيين في العراق ولبنان تخرّجوا في النجف. وهناك قادة في الأحزاب الشيوعية ومفكّرون في التيارات اليسارية تخرّجوا في هذه المؤسّسة كالدكتور حسين مروة وأمثاله. والغريب أن بعضهم حتى اليوم يقصرون النجف – جهلاً أو قصداً – على التربية الدينية بعامة، والتربية الشيعية بخاصة.

إذن محيط السيّد كان جنوب لبنان وجنوب العراق. وهذا ما أطلقنا عليه في كتابنا المعدّ إمبراطورية الأدب في بلاد الشام اسم درب الآلام. فمنذ قديم الزمان لفّ ضباب الحزن هذا الدرب. فالنواح على تمّوز يمتدّ على مدار هذا القوس، ويصل إلى شمال فلسطين وجنوب لبنان، حيث كانت نسوة اليهود يشاركن الكنعانيات في النواح والندب على تمّوز (وله أسماء أخرى كبعليم وبعل وأدونيس…). هل نسمّي هذا الدرب ”زنار البؤس“ أو ”طريق الدموع“ أو ”مجمع الأحزان“ أو ”درب كربلاء“…؟

والمدهش أن الحزن مشهور في هذا المسار منذ العهود الأسطورية، فقد روي أن التمّ (يطلق عليه اسم أردف في بلاد الشام) نوع من اليمام أو البجع لا يعيش إلّا في هذا المسار، وهو الطائر المدمن على الحزن والتضحية، ومنه شاع المثل المشهور ”أغنية البجع“ وهي أغنية يطلقها إذا فقد زوجه، بأن يغرز منقاره في صدره ويأخذ في الغناء حتى يصل المنقار إلى القلب، فتنتهي الأغنية وينتهي معها. وهي الأغنية الوحيدة التي يطلقها التمّ في حياته. ونتخيّل أن ”سيّد العمامة“ أطلق هذه الأغنية قبل رحيله، لا لأنه فقد أحداً، بل لأنه فُجع بمن كان يأمل منهم الموقف الوطني الأمثل، كما نستدلّ من بيانه مع السيّد محمد حسن الأمين.hani fahes

الثقافة ليست عملية فرض، وإلّا تحوّلت إلى تحزّب. إنها عملية اختيار. عملية ممارسة الحرّية. ثقافة السيّد فحص لم تفرَض عليه، بل اختارها بنفسه، بينما اختار غيره ثقافة الانصياع وما فيه من ذلّة. اختار الحرية من لبنان، واليسارية (رفض الظلم أينما كان) من النجف. ومن الحرية واليسارية أتقن الفقه. ومن هنا لُقِّب بـ ”سيّد العمامة“ فهو أعلى من العمامة لأنه يملك إرادة ولا ينصاع لما تفرضه أيّ عمامة عليه إلا بمستوجبات الحقّ والخير والجمال.

كيف تكون شيوعياً جيّداً

قبل نصف قرن كلّفتني دار دمشق بترجمة كتاب ليو شاو شي كيف تكون شيوعياً جيّداً فجعلنا عنوانه ” كيف تكون مناضلاً جيّداً “ تحايلاً على الرقابة المتشدّدة. يجد القارئ في الكتاب كلّ الصفات النبيلة التي يجب أن تتوافر في الفرد حتى يكون صالحاً لخدمة الشعب والحزب والدولة. ولكن هذه الصفات النبيلة لم تحل دون تحويل العضو إلى بزال في آلة، بحجّة الديسيبلين الحزبي الصارم. فهذا الديسيبلين يجعل مصلحة الحزب فوق كلّ مصلحة. ولم يكن صاحب الكتاب متحلّياً بما في الكتاب، فاتُّهم بالعمل لشخصه ومجموعته فأُقيل من منصبه وطُرد من حزبه.

ليس المهمّ أن يظهر الكتاب، بل المهمّ أن يكون الكاتب نموذجاً لما كتب، وإلّا صار من باب الدعاية الزائفة. فمن الممكن اليوم أن تُخرِج كتاباً بعنوان كيف تكون مقاوماً ممانعاً للشيطان الأكبر وتعقد معه الصفقات ومعاهدات الصداقة واتفاقيات تشمل المرافق الوطنية. ومن الممكن أن تُخرج كتاباً كيف تكون زاهداً وتستغلّ الزهد للابتزاز والإثراء، ويمكن أن تُخرِج كتاباً بعنوان كيف تخدم شعبك وتُعزّ وطنك وتطلق كلّ أنواع الأسلحة، تحت ذريعة أو أخرى، فتعتقل المثقّفين وتنفي الوطنيّين وتغتال مَن تغار منهم أو ترى فيهم خطراً عليك… كلّ شيء ممكن في عملية النفاق، لكن نتائجها تفضحها على أرض الواقع… كالمثال السابق.

كيف تكون شيعيّاً جيّداً

ما هي الثقافة؟ أليست العثور على الحلول بالاعتماد على التجارب والمعرفة والحسّ الوطني؟ الثقافة ليست مجموعة معارف. إنها فاعلية تجعل العام فاضلاً والخاص مفضولاً، وعندما لا تكون بهذه الفاعلية تصبح لجاجاً في الطغيان. واليوم لا يحتاج المرء إلى المعارف والمعلومات، فهي مبثوثة في الشبكة العنكبوتية، ولكنّه بحاجة إلى ثقافة وموقف أدبي، وبشكل خاص ثقافة ”سيّد العمامة“ وموقفه الصريح.

كان ”سيّد العمامة“ شيعيّاً. فكيف يكون الشيعي جيّداً، سواء في جوّ شيعي أو سنّي أو مسيحي أو زرادشتي أو بوذي…؟ لنطرح السؤال بطريقة أخرى: كيف يكون جيّداً صاحب أيّ ملّة أو مذهب أو عقيدة؟

من مطالعة حياة ”سيّد العمامة“ وثقافته (ليس في كتبه فقط بل في نشاطه العملي أيضاً) نلاحظ أنه جمع بين ثلاث عمليات أساسية- دعامة كلّ مثقف بالمعنى المعروض سابقاً: الأولى عملية النصرة والثانية عملية التقيّة والثالثة يقظة المسؤولية.

عملية النصرة: عملية النصرة للمشترك الإنساني منطلق أساسي للنشاط الثقافي للسيّد هاني فحص. وضرورة هذه العملية أنك تعيش في عالم متعدّد ومتنوّع. فقياس الناس بحسب معتقداتك لا يترك لك فسحة للعيش، فإن وُجِدتْ كانت ضيّقة. وفي حال توافرتْ مساحة العيش ضاقت مساحة التآلف والسعادة والفرح- إن توافرت. فعملية النصرة لا تعني التنكّر لمعتقدك ولا لأحلامك والالتحاق بالآخر، بل تعني الوصول إلى المشترك الإنساني، أي الأخوّة الإنسانية، بغضّ النظر عن العرق والدين. وما هذه الأخوّة، أو المشترك الإنساني؟ إنه نصرة المظلوم. والمقصود بالمظلوم هنا ليس الفرد، فمثل هذا الظلم يُحَلّ عن طريق القضاء وربما بتدخّل ”أهل الخير“. المقصود أن هناك ظلماً اجتماعياً وسياسياً وقمعاً… يبدأ من الإرهاب الفكري والتهميش الاجتماعي والاقتصادي فالاعتقال التعسفي حتّى يصل أحياناً إلى تدمير أحياء أو مدن بكاملها. أيّ تخاذل في النصرة سقوط مريع للثقافة، وتسهيل مجّاني للطغيان. أيّ تهاون يعني أن الظلم لاحقٌ بك غداً أو بعد غد، وبالتالي فقدتَ العنصر المكوّن لإنسانيتك، من أيّ ملّة كنت، بل تكون قد عرّضت ملتك ذاتها للخطر.

عملية التقية: أشرنا من قبل إلى تغيير عنوان كتاب ليو شاو تشي، فتساهلنا في قضية جزئية من أجل قضية عامة. وهذا هو المقصود بالتقية، وليس التقية النابعة من الفطرة الإنسانية خوفاً على الحياة والمال والعرض. أمّا أن تُظهر غير ما تُضمر لاغتيال الناس وابتزاز أموالهم وهتك أعراضهم فهذا عمل مافياوي يقوم على النفاق والانتهازية، ويطيح بمصلحة المجتمع. فالتقية لا تُقاس بالممارسة، بل بنتائج الممارسة.

مواقف ”سيّد العمامة“ كثيرة في هذه التقية، كموقفه من الفتوى المشهورة التي ظهرت من طهران. فقد سعى بكلّ جهده لوقف تنفيذ فتوى هدر دم الكاتب سلمان رشدي، وهي فتوى فريدة من نوعها. وكانت حجّته أن تنفيذها يقود إلى مواقف شبيهة بمواقف محاكم التفتيش من الفكر والثقافة، ممّا يجرّ فتنة عالمية تصيب الجميع، ولا تعود بنفع على أحد. فالتقية من أهمّ العناصر الثقافية في الأزمات المستحكمة.

يقظة المسؤولية: كان له موقف حسّاس جداً من السلوك البشري. فمن رأيه أن سلوك المجموعات أو المؤسّسات أو الأحزاب لا بدّ من أن يكون له مسار ملتزم بالحقّ والخير والجمال. أمّا السلوك المشبوه فيتخذ طريقة تدريجية في الوصول إلى المأرب، فهو يبدأ بمكتسب بسيط، يشتبه على الناس، فيتساهلون به، فيتصعّد إلى موقف آخر بدرجة أكبر… وهكذا، كما جرى بحجّة مساعدة سكّان الحدود، وانتهى بحرب الصواريخ. فلا بدّ من أن يتشدّد المثقّف في موقفه مهما كان الخطأ بسيطاً، لأن ممارسة التقية بشكلها المعكوس، والمتناقض مع ما ترمي إليه في تغليب العام على الخاص، تتصعّد إن لم يكن المثقّف متمتّعاً بيقظة المسؤولية. فالخطر كامن في تدنّي نسبة اليقظة المسؤولة، فيُستدرَج بالحجج الواهية، فلا يعي- إن وعى- إلّا وهو على شفير الهاوية. وهذا ما نلاحظه في رسالة السيّد هاني فحص المفتوحة إلى الحزب، كما نلاحظه في البيان الذي أصدره مع السيّد محمد حسن الأمين.

هكذا يكون المرء جيّداً، شيعيّاً كان أم شيوعيّاً، آسيويّاً أم أوروبيّاً، أفريقيّاً أم أميركيّاً، طاويّاً أو مسيحيّاً…

رحل ”سيّد العمامة“ لكن ثقافته ستبقى ما بقي بشر وعلاقة وأزمات.

******

(*) مؤسسة الفكر العربي – نشرة أفق

اترك رد