جورج جرداق… ترك عالم “الفاجر يأكل فيه مال التاجر” ورحل إلى ما وراء الشفق ليسكن الروح والوجدان

قضى ليلته ورحل إلى “هناك”… إلى ذاك العالم الذي سبقه إليه أصدقاؤه المبدعون، واستقر في الوجدان والإحساس ggerdakوفي قلب كتبه وشعره، ليضحي فكرة وروحاً تتجدد مع كل خفقة حب ولمعة إبداع وآه ينتزعها صوت جميل يذكر بزمن الفن الجميل…

جورج جرداق الشاعر والأديب الرومنسي والساخر، أغلق كتاب حياته عن عمر 84 سنة، وحلق إلى ما وراءالأفق ليسكن الأحلام في فجر يبشر باستمرار بتجدد الروح السابحة في الفضاء اللامتناهي…

نعت نقابة محرري الصحافة اللبنانية الأديب جورج جرداق، في بيان جاء فيه:
“خسرت الصحافة اللبنانية والعربية، وعالم الأدب والشعر، جورج جرداق بعد 84 عاماً تميزت بالإبداع الفكري والثقافي والموهبة المتوقدة التي أغنت لغة الضاد بروائع من نتاج قلمه الخلاق، سواء في الشعر أو النثر أو النقد. وهو مؤلف موسوعة “الإمام علي صوت العدالة الانسانية”، وكاتب أروع القصائد لكوكب الشرق أم كلثوم، عدا عشرات الكتب وآلاف المقالات في مطبوعات دار الصياد، وسواها من المجلات والصحف، والمسلسلات الاذاعية المتنوعة.

نتاجه عكس عمق إطلاعه على كنوز الادب العالمي والعربي، وغنى مخيلته، وهو استحق جوائز عالمية وعربية، كان آخرها جائزة عبد العزيز البابطين الأدبية الذي حال وضعه الصحي دون تسلمها شخصيا.

نقابة محرري الصحافة اللبنانية، إذ تنعي إلى الزملاء هذه القامة الإعلامية الكبيرة التي ستخلف فراغاً في عالم الصحافة والثقافة والأدب، تتقدم من عائلة الفقيد وأسرة دار الصياد، وكل أصدقائه وزملائه بأصدق مشاعر العزاء، مفتقدة الراحل الكبير الذي تميز بالحضور المتألق، وآمن بالكلمة سبيلا للتواصل، وبناء عالم أفضل.

كذلك نعى المجلس الثقافي للبنان الجنوبي في بيان بأسى بالغ وحزن شديد، أحد مؤسِّسيه الأوائل المفكِّر والأديب والشاعر الأستاذ جورج جرداق. وقال: “نقف بخشوع مع أفراد أسرته الأعزاء وأبناء جديدة مرجعيون الكرام في مسيرة وداعه الأخير. عميقاً سيبقى في قرارة ذاكرتنا وفي أيدينا عشرات مؤلفاته المتألقة”…

مسيرة إبداعية

ولد الكاتب والشاعر اللبناني جورج سجعان جرداق عام 1931، من والد يعمل مهندس بناء، “في بقعة سكانها عرب حقيقيون، يتحدرون من أسر عربية عريقة، أما البيئة البيتية فكانت من جماعة الفكر والعلم والأدب والشعر، وتأثري الشديد كان بـ “أخوي فؤاد”، كما قال في أحد لقاءاته الإعلامية.wahab koulsoum

كان جورج الصغير يهرب من المدرسة، بحثاً عن عين ماء من عيون السهل الشرقي تلك التي سمي المرج باسمها “مرج عيون”، فينتقي صخرة تحت شجرة تظلله، ليحفظ شعر المتنبي، وفقه اللغة العربية في مجمع البحرين للشيخ ناصيف اليازجي. وعندما اشتكت المدرسة من فراره الدائم، حاول ذووه معاقبته، فتدخل شقيقه فؤاد معللا: “إن ما يفعله جورج يفيده أكثر من المدرسة”. وتشجيعاً له أهداه “نهج البلاغة” للامام علي بن أبي طالب، قائلا: “إقرأه واحفظه”.

بعد انتهاء دراسته التكميلية في مدارس جديدة مرجعيون، انتقل جورج جرداق إلى بيروت، ليلتحق بـ “الكلية البطريركية” (1949)، منذ ذلك الحين، سكن بيروت وسكنته، من دون أن ينفي ذلك حنينه إلى الجذور وتواصله مع الأهل والأصحاب في “الجديدة”.
يرد خصوبة فكره وذاكرته إلى اختياره الكلية البطريركية الذائعة الصيت بتخريج أقدر الطلاب في اللغة العربية وآدابها. “كانت مهمة بحاضرها وقديمها، فالشيخ إبراهيم اليازجي، أكبر علماء العربية على الإطلاق، كان أحد أساتذتها في القرن التاسع عشر، ومن تلامذته خليل مطران شاعر القطرين. درست على يد الأديب المعروف رئيف خوري، وعلامة عصره فؤاد أفرام البستاني مؤسس الجامعة اللبنانية، وكان أستاذ اللغة والأدب الفرنسي الشاعر ميشال فريد غريب الذي كتب شعره بالفرنسية”.

في هذه الأجواء، كان من البديهي أن يؤلف جرداق كتابا في سن مبكرة. في الثامنة عشرة من عمره، كتب باكورته “فاغنر والمرأة” (1950)، عن الموسيقي والفيلسوف الألماني. نظراً إلى أهمية الكتاب، قرر الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي إدراجه ضمن لائحة الكتب التي يجب على طلاب الدكتوراه في الأدب قراءتها بإمعان، كذلك أصر أحد المستشرقين الألمان على مقابلة جرداق وأخذ إذنه في ترجمة كتابه إلى اللغة الألمانية.

بعد تخرجه من الكلية البطريركية (1953)، انتقل جورج جرداق إلى التأليف والكتابة في الصحف اللبنانية والعربية من جهة، وإلى تدريس الأدب العربي والفلسفة العربية في كليات بيروت من جهة أخرى. استهل عمله الصحافي في مجلة “الحرية”، ويقول عنها: “كنت أكتبها من الغلاف إلى الغلاف، وكنت أحرر مقالات وأوقعها بأسماء صارت لاحقاً معروفة لدى أصحاب الصحف، حتى إن أحدهم طلب مني أن أعمل عنده، فرفضت”. ولعل من أهم محطات حياته اختيار ام كلثوم قصيدته الشهيرة “هذه ليلتي” ليصدح بها صوتها وتصبح إحدى تحف الغناء العربي.

عمل أيضا في مجلة “الجمهور الجديد” وانتقل إلى “دار الصياد” عام 1965، وعمل في مجلة “الشبكة” وفي صحيفة “الأنوار”، وأصبح أحد أركان الكتابة في منشورات “الصياد”.gerdak1

عام 1960، أطلق سلسلته الفكرية الشهيرة “موسوعة الإمام علي”، فصدر منها تباعاً خمسة مجلّدات، أتبعها بمجلد سادس وهي: “علي وحقوق الإنسان”، “علي والثورة الفرنسية”، “علي وسقراط”، “علي وعصره”، “علي والقومية العربية”، وحمل الملحق عنوان “روائع النهج”. في موسوعته يستشهد جرداق بقول لميخائيل نعيمة: “يقيني أنّ مؤلف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح إلى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب، لا تستطيع أمامها، إلا أن تشهد بأنّها الصورة الحيّة لأعظم رجل عربي بعد النبي”.

طبعت الموسوعة أربع مرات، في ثلاث دور نشر مختلفة خلال سنة واحدة، وتشير الإحصاءات إلى أنّ أكثر من خمسة ملايين نسخة طبعت منها حتى اليوم. “بالطبع لا أجني قرشاً واحداً من هذه المطبوعات التي ترجمت إلى الفارسية والأوردية ـ لغة مسلمي القارة الهندية ـ والإسبانية والفرنسية. وعندما أحتاج إلى مجموعة عربية أو أجنبية أشتريها، فيما لم تكلّف دار نشر واحدة نفسها أن ترسل لي نسخة هديّة من باب رفع العتب”.

في صيف 1967، أقام الموسيقار محمد عبد الوهاب عاماً كاملاً في لبنان، وسكن في جوار جورج جرداق. كانت السهرات لا تحلو للموسيقار إلا في فندق “لامباسادور” في بحمدون، لإطلالته على وادي “لامارتين”.

ذات يوم، قال له صاحب “يا جارة الوادي”: “تحدثت اليوم مع أمّ كلثوم عبر الهاتف، وسألتني عنك وعن إطالة غيابك عن مصر. تهديك تحياتها وتريد منك أغنية للموسم الجديد”.

يخبر جرداق: “صار كل ليلة يسألني أين أضحت القصيدة؟ وفي إحدى الليالي، وكان معنا يوسف وهبي وإحسان عبد القدوس ونجاة الصغيرة وفريد الأطرش، وشوشني عبد الوهاب بأن نخرج إلى الشرفة المطلّة على الوادي. وهناك رحت أدندن بعض أبيات الشعر، فطلب إليّ أن أعيدها على مسمعه، وصاح هذه القصيدة التي نبحث عنها”. وكان أن غنّت كوكب الشرق “هذه ليلتي” على المسرح القومي في السودان، في 30 ديسمبر 1968، بعد عام على كتابتها، إذ أخّرت إطلاقها بسبب النكسة”. قال عبد الوهاب عن صاحب القصيدة: “في شعر جورج جرداق من الموسيقى، ما لا يستطيع اللحن أن يجاريه أو يدانيه”…

ولأنه صاحب مزاج طريف، شديد الميل إلى الأهاجي والفكاهة، تهاجى مع “الأخوين رحباني” اللذين يتميزان بمثل مزاجه، مدة ستة أشهر كاملة، على صفحات “الشبكة” في أطرف معركة هجاء، تابع الجمهور فصولها فصلاً فصلاً. “اتفقنا عليها بالمصادفة، صدّقها الجميع إلا عبد الوهاب. عندما قرّرنا إيقافها، صرخ بنا سعيد فريحة: بتخربولي بيتي، إنني أطبع 250 ألف عدد إضافي”. صديق المرأة وحبيبها، ظلّت الصحافة الأقرب إلى قلبه، بعيداً عن “زواريبها اللبنانية التي هي مرآة المنافع الشخصية”. مثلما أحبّ الصحافة، أحبَّ الاشتراكية، ويقول: “تأثرت بأستاذي رئيف خوري، وببيئتي وبالناس من حولي، ورحت أقارن بينها وبين السياسة، فإذا بها قائمة عندنا على مبدأ “الفاجر يأكل مال التاجر”.

انتسب إلى الجدول النقابي عام 1968. عمل في الصحف والمجلات التالية: الصياد، الشبكة، الأنوار، الكفاح العربي، الجمهور الجديد، الأمن، المجلة السعودية، الوطن والقبس الكويتية.

اترك رد