وصل بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر إلى بستان حديقة العذراء في جبل آثوس في اليونان، في زيارة حج وصلاة، هي الأولى لبطريرك إنطاكي للجبل المقدس في التاريخ الحديث، غايتها توطيد العلاقات الروحية القائمة أصلا بين انطاكيا ورهبان الجبل المقدّس الذين يشكلون قلب العالم الأرثذوكسي.
كان في استقباله في “كارياس” عاصمة الجبل المقدس المتروبوليت ماليتو أبوستولوس ممثلا رئيس أساقفة القسطنطينية والبطريرك المسكوني بارثلماوس الاول والبروتوس (الاول) والحكام المدنيين وممثلو الأديار الذين احتشدوا لتحيته.
دخل البطريرك إلى الكنيسة المركزية في عاصمة الجبل، على وقع الأجراس والتراتيل. فترأس صلاة الشكر. وبعد انتهاء الصلاة ألقى البروتوس (الاول) كلمة ترحيبية بالبطريرك الإنطاكي الذي عرفه الجبل المقدس راهباً من رهبانه. وردّ البطريرك بكلمة استعار مقدمتها من القديس “اسحق السوري”، وجاء فيها:
“في الليل عندما تلبس أصوات الإنسان وحركاته وقلاقله وشاح السكينة. أنر نفسنا بك بكلّ اختلاجاتها يا يسوع يا نور الأبرار. وفي الساعة التي فيها تهب الراحة للمتعبين يا سيّدي، فلتنتشِ، بالحلم الأحلى، أفكارنا بك يا حلاوة القدّيسين. في وقت الخلود إلى النوم، عندما يرقد الثملون بصنّاع الوقتي الزائل، أيقظ يا ربنا، فينا تلك المعرفة التي لا تزول.
وفي بدء النهار، عندما يهتم الجميع بالأشياء الأرضية، أهلّنا أيا ربنا، أن نتنعم بسلوكنا الدرب السموي. وفي الساعة التي فيها ينزع الجميع ثوب الليل، انزع أيا ربنا من قلبنا ذكرى العالم الذي يمضي. وفي الشروق عندما يمخر البحارون بحر العالم، أرح يا رّبي، النفوس في مينائك. نحن في أسرارك نحتضنك كلّ يوم ونستقبلك في جسدنا؛ اجعلنا أهلاً لأن نشعر في نفوسنا بالرجاء الذي لنا بالقيامة. كن يارب جناحاً لفكرنا فيطير في النسيم العليل، حتى نبلغ بهذا الجناح خدرنا الحقيقي.
لم أجد أحلى من هذه الكلمات للقدّيس اسحق السوري لأبتدئ كلمتي هذه. لم أجد أفضل منها، صلاةً صادقة تختصر خبرة آثوس الروحيّة وتصف حالة النفس البشرية التي يطير بها عشقها الإلهيّ.
هذه كلمات اسحق السوري، جسّدها ويجسّدها أناسٌ عرفتهم وعشت بينهم، أنا غير المستحق، راهباً في آثوس.
آثوس يجسّد خبرة الكنيسة المصليّة الساجدة أمام صليب ربها في صلاة مستمرة من أجل العالم أجمع.
آثوس بخور تضرّع أمام الحمل الذبيح لأجل خلاص العالم.
آثوس قنديل صلاةٍ أمام طهر العذراء يغتذي بزيت الطاعة واللاقنية وبفتيل البتولية فيستمّد من معينها شعلة قداسةً ويشع نورها للدنيا.
آثوس هذا، هو ميناء العذراء في لجة هذه الدنيا ومن يرسو عند العذراء تنكسر أمامه أمواج الزمن العاتي.
لقد عرفت هذه الأرض المباركة منذ أكثر من ثلاثين عاماً. عرفتها وعرفت فيها اللاهوت المصلّي.
عرفتها كليّة للاهوت تذوب فيها النظريات في واقع الحياة. في هذه الديار ينعجن اللاهوت بحياة الصلاة. هنا كما، في أكثر من مكان، يمتزج العلم اللاهوتي بالتقى وبالورع. ويلتقي كلّ هؤلاء في الليتورجيا الحية البهية.
هذا الجبل هو مسبحة صلاة لكلّ المسكونة. وهو في الوقت نفسه واحةٌ تنهل منها الأرثوذكسية من كلّ الدنيا. وقد نهلت منه أنا شخصياً وتعلّمت هنا وفي دير القدّيس بولس الآثوسي أن هذا الجبل بأدياره وبأساقيطه ومناسكه وقلاياته هو معجن اللاهوت بحياة الصلاة. وأن اللاهوتي هو المصلّي والمحب، وهو الذي لا يزدري علماً يتلقاه في الكلية، ولا يزدري تقىّ وصلاةّ يراها في الأديار. بل يصل الاثنين في سيمفونية حياته ليكون كائناً هيمنولوجياً لله العليّ وذلك في كلّ مربضٍ من مرابض الروح في مسيرة عيشه.
في عصرنا الحديث كان للجبل المقدّس الأثر الكبير في البطريركية الأنطاكية.
في أنطاكية اليوم، أناسٌ عاشوا هنا ورقدوا هنا.
في أنطاكية اليوم بطاركة ومطارنة وكهنة مروا وتمرّسوا على الرهبنة في بستان العذراء.
في أنطاكية اليوم، أخويات وأديار ارتشف مؤسسوها من معين الرهبنة الأرثوذكسية الآثوسية فبثوا الحياة في أحجار أديارها.
في سبعينيات القرن الماضي جاء إلى هنا الأب اسحق عطالله، جاءكم ناقلاً أوجاع لبنان الذي كان يئن تحت وطأة حربٍ هجرت أبناءه.
اليوم آتيكم اليوم طالباً صلواتكم من أجل سوريا ومن أجل كلّ المشرق الذي تتقاذفه حمم الحروب.
آتيكم اليوم طالباً الصلاة من أجل مهد المسيحية وعروس المشرقية الأرثوذكسية، كنيسة أنطاكية.
أوافيكم حاملاً جراح أهلكم وأحبتكم في سوريا.
آتيكم من أرض أفرام السوري ومن بلاد الدمشقيين أندراوس ويوحنا وقوزما وبطرس.
آتيكم من بلاد سمعان العمودي لأطلب منكم أن تصلوا من أجل الأرض اصطبغت أولاً باسم المسيح.
أطلب منكم الصلاة من أجل الناس المهجّرين والمخطوفين.
أطلب منكم الصلاة من أجل رعاة حلب والآباء الكهنة المخطوفين.
أطلب الصلاة الحارة من أجل المطران يوحنا ابراهيم والمطران بولس يازجي، الذي يعرفه تراب هذا الجبل المقدس وتعرفه قلاليه وأدياره.
أطلب إليكم الصلاة من أجل أناسٍ أبرياء يدفعون ضريبة أيام قاسية وإرهاب وتكفيرٍ أعمى. أطلب هذه الصلاة وكلي رجاء وطيد بأن يعود المشرق مرتعاً للنور وموطناً لسلام طفل المغارة.
أطلب صلاتكم من أجل لبنان. لبنان الذي يرزح تحت كم من القلاقل منها الخطف الأعمى وفراغ المؤسسات الدستورية.
نقول كلّ هذا ولنا الرجاء لا بل اليقين، بأن صلاة البار تستعطف الرّب.
أحمل إليكم صلوات الرهبان في بلادنا وأحمل إليكم أجراس محبتها.
أحمل إليكم محبّة الصغير والكبير في أنطاكية، أنطاكية العظمى بعظمة إيمان أبنائها وبقوّة رسوخهم في أرضها، أنطاكية العظمى التي تكسرت على صخور تاريخها قساوة الأيام الغابرة والحاضرة. أنطاكية التي مشحت المسكونة بنور المسيح. إنها لبركة كبيرة لبطريرك أنطاكية ولكنيسة أنطاكية أن تكون ههنا، وأن نضم صلاتنا إلى صلاتكم، يا إخوتي وأن نرتمي جميعاً أمام أيقونة العذراء “أكسيون استين” ونقول:
احفظي أم الإله يارجاء المؤمنين
من أذى هذي الحياة طالبيك الواثقين
بارككم الله”.
دار الحكومة
ثمّ زار دار حكومة الجبل المقدس حيث التقى رؤساء الأديار ومندوبيهم. وقد القيت كلمات في المناسبة. وجرى تبادل للهدايا، قبل أن يولم “البروتوس” على شرفه.
دير القدّيس بافلوس
توجه البطريرك الى دير القدّيس بافلوس (بولس) الذي قدم فيه نذوره الرهبانية ويقيم خلال فترة تواجده في الجبل. وقد زين الدير بالغار كما في عيد القيامة ورفعت اليافطات المرحبة “ببرعم الدير وفخره.
كان في استقباله رئيس الدير الأرشمندريت بارثانيوس والشيوخ ومئات الرهبان. دخل البطريرك إلى كنيسة الدير الرئيسية على قرع الناقوس والأجراس، وسط محفل مهيب من الكهنة والشمامسة والرهبان. واحتفل مجدداً بصلاة الشكر.
في المناسبة ألقى الأرشمندريت برثانيوس كلمة تطرق فيها الى عمق العلاقة بين أنطاكية وبطريركيتها بالجبل المقدّس، وعلاقة البطريرك بدير القدّيس بافلوس تحديدًا.
رد البطريرك بكلمة وجدانية فأعتبر أنّ “هذا الجبل هو مسبحة صلاة لكلّ المسكونة. وهو في الوقت نفسه واحةٌ تنهل منها الأرثوذكسية من كلّ الدنيا. وقد نهلت منه أنا شخصياً وتعلّمت هنا وفي دير القدّيس بولس الآثوسي أن هذا الجبل بأدياره وبأساقيطه ومناسكه وقلاياته هو معجن اللاهوت بحياة الصلاة. وأن اللاهوتي هو المصلّي والمحب، وهو الذي لا يزدري علماً يتلقاه في الكلية، ولا يزدري تقىً وصلاةً يراها في الأديار، بل يصل الاثنين في سيمفونية حياته ليكون كائناً هيمنولوجياً لله العليّ، وذلك في كلّ مربضٍ من مرابض الروح في مسيرة عيشه.”