الحجر المهاجر

الأديب سعادة أبو أعراق

تتغير خزائن البيت وملآة الاسرّة والأرائك، تتغيرألوان الجدران والأبواب والشبابيك، وتتبدل الصحون والزهريات، وتباع saada-abou-aarak-1التحف أو تهدى أو تتلف، ويؤتى بغيرها، إلا ثلاثة أحجار بيضاء غير مستوية، لا تزن كيلو غراما واحدا، توضع في دورق حينا وحينا على وسادة من مخمل، كأنها الماس أو حجارة من القمر، بل إن أبا شلبي يقول إنها أثمن ما في الوجود، إنها بعض من بيته ومزرعته التي غادرها في يافا.
ترتفع شدة الحرص على هذه الحجارة يوما بعد يوم ، وتزداد أهميتها مع سوء الأخبار السياسية وحسنها، ومع الأحداث والتطورات سلبا وإيجابا، أبو شلبي وحده يمارس معها طقوس العشق والتعبد، أمامها يبكي ويفرح، يناجيها ويكلمها كلما حزب الأمر ،ويبدي ضربا من الهلوسة وحالة من حالات الحنون, تثير خوف الأسرة وحفيظة أفرادها، يتمنون لو تغيب بقدرة قادر، تسرق، تتطاير، فقد بدا الرجل الذي جاوز السبعين يفقد عقله ، يفقد منطقه وفكره وذاته ووطنيته، يصبح سوداويا سلبيا طفوليا.

ينكره الرفاق الذين عايشوه، ويعرفونه من زمن بعيد، فهذه الصور المبثوثة في القاعة ، تشهد على شخصية ثرية العقل والتاريخ، فها هو واقف بسلاحه مع حسن سلامة ،وهنا يقف مع أقطاب الحزب الوطني، وفي تلك الصورة مع المجاهدين في الجبال، وهذه المكتبة الزاخرة المنتقاة بعناية على مدى عشرات السنين، لا تدل على شخصية سخيفة مهووسة.

يكرهها الصغير أشرف، ويهم بقذفها أو يحاول تبديدها ، لعل شيئا من هذا النحس الجاثم أن يرحل، فأبوه قد يغضب ردحا، لكنه سيرضى آخر الأمر، فما الفرق بين حجارة من يافا وحجارة من رام الله، وأين دلالة الرمز والأيحاء، ألا يكفي أننا الرمز الأقوى لفلسطين، وهل نحتاج إلى حجارةحتى نتذكر الحق والأرض والوطن.

يدنو منها، يزمع قذفها، يحجم ويتذكر القصة الطريفة التي جاءت بهذه الحجارة، قصة متداولة في العائلة شائعة عند الناس، يتندرون بها في بعض المواقف، ونشرها أحد الصحفيين في الجريدة ،قصة تدل على شاعرية الأب ورقته ووطنيته، حيث التقى برجل إنجليزي، كان يعرفه في يافا زمن الانتداب  وكان قد دعاه يوما إلى بيته، وطلب منه أن يذهب إلى فلسطين، ويمضي إلى بيته هناك ،يصفه له ويحدثه عنه ويصوره أيضا، ويحضر له ضمة نعنع من مشتل البئر، وأي شيء آخر يراه مناسبا، رجاه كثيرا واشترى له تذكرة سفر، ذهابا و إيابا، وما يحتاجه من مصاريف.

وذهب الإنجليزي ،ووعاد بعد اسبوع ، يحمل النعنع والصور والأحجار الثلاثة والكثير من الحكايات ،وفرح أبو شلبي واعتبر ذلك أثمن ما في الوجود.

يعرف أشرف أن هذا أسلوب من أساليب التعبير عن الوطنية،ولكل إنسان أن يعبر عن موقفه بما يشاء ، ويعرف أن النقاش مع أبيه حراثة في بحر ، فيعرض الفتى أشرف معاناته على أحد معلميه:

– فلسطين يا أشرف ليست وثنا ، ونحن لانحبها من أجل أرضها وسمائها، ولا لأنها أرض آبائنا وأجدادنا ، إنها أرض من أرض الله لايميزها عن غيرها شيء إلا أنها شاهد على وفائنا و إخلاصنا وأخلاقنا، التفريط بأرض فلسطين ليس تفريطا بمساحات من الأرض بل تنازل عن الأمانة التي حملنا الله إياها ، تنازل عن واجبنا في إقامة الحق والعدل ومكافحة الظلم والإعتداء والفساد.

لم يستوعب أشرف الكثير من قول الأستاذ ، لعله قول صعب ، أوفكرة ليست في مستواه ، أو أن الأستاذ قد اقتضب القول.

أردف الأستاذ:

– أخطر ما يواجه القضية الفلسطينية أن تصبح لها أبعاد مادية ، أي تنحصر فلسطين بالأرض والسماء والتراب والحجارة والمياه ،والأشجار والأجواء ،وأن تكون موقعا للسكن ومصدرا للعيش ،عندها يبدأ حصرها وتطويقها وتذويبها وتبديلها ، ونُدفع لأن نبحث عن سكن آخر ومصدر عيش أفضل ، أما ان تظل فلسطين رمزا للحق المدنس والظلم الواقع فإنها تجل عن التضييق والاستبدال، وتعظم عن الاحتواء والتقزيم والافناء.

تمضي الايام ولم يزل أشرف على حيرته ، لم يعطه الاستاذ فكرا محددا ولا طريقا واضحا ، لكنه فهم ان الحجارة رمز سخيف لا تزيد شيئا ان لم تنقص، أهؤلاء المتظاهرون الذين يرشقون الجنود بالحجارة لديهم رموز في قارورة يتزودون منها وينطلقون،الحجارة لا تصلح الا ليقذف بها الاعداء، ها هم المتظاهرون يقتربون، وانها فرصة لا تتكرر، يمد لها يدا غير مترددة ،يلتقطها ويمضي مهرولا صوب الشارع، ينطلق نحو المواجهة، يختبئ خلف جدار، يراقب الموقف، والجنود، يقذفهم بالحجر الأول، لم يتأكد من الإصابة، فيطلق الثاني ويغير موقعه، ويطلق الثالث ،لم يدر أن كانت قد أصابت أهدافها جيدا ام لا ،لكنه يعلم أنها استعملت الاستعمال الصحيح.

27- 7- 1983

******

(*) من مجموعة فتيان الحجارة

اترك رد