مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة، عنوان كتاب صدر حديثاً للباحث المغربي د. محمد جبرون، عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يعتبر مساهمة قيّمة في النقاش العام الدائر حول فكرة “إسلامية الدولة” والتي حظيت بمكانة متميزة في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر.
تأسست الأطروحة التي يحاول هذا الكتاب بناءها على أساس فرضية مفادها أن سؤال “الإسلامية” الذي ملأ الدنيا ليس هو المشكلة الحقيقية، بل مجرد مظهر لمشكلة أعقد، وهي مشكلة العطب الإصلاحي- التاريخي الذي حدث قريبًا من عهدنا خلال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.
ويرى الكتاب في فصله الأول: “الإسلام وأصول الحكم” أنه من الممكن، وعبر إعمال منهج السعي نحو تحرير النص الشرعي من التاريخ وآثار الثقافة العالقة بالفهم الموروث، يمكن استنباط ثلاثة مبادئ كلية تشكل أساس وصف الإسلامية وهي: البيعة (التعاقد) والعدل والمعروف. وبذا بات مفهوم الدولة الإسلامية مفهومًا جاذبًا للحداثة بعدما كان نافيًا لها بإلحاحه على التطابق مع التاريخ.
يشير المؤلف، كذلك، إلى أن الدولة الإسلامية، بمختلف مراحلها، كانت محاولة لتنزيل هذه المبادئ وفق المتاح التاريخي، ولذا خصص ثلاثة فصول شغلت المساحة الكبرى من الكتاب، لعرض أشكال تنزيل مبادئ “الإسلامية” وأشكال التكيّف مع التاريخ، في ثلاث مراحل كبرى من تاريخ الدولة الإسلامية هي: دولة الراشدين ودولة العصبية والطور الانتقالي نحو الدولة – الأمة ابتداء من العصر الحديث.
دولة الخلفاء الراشدين
وفي الفصل الثاني “دولة الراشدين وأرخنة الأصول” يرى الكاتب أن دولة الخلفاء الراشدين، وفي ما يتعلق بتنزيل مبادئ الإسلامية، قد نجحت إلى حد ما في تثبيت سلطة الأمة في تعيين الخلفاء، وكذلك في إقرار قدر مهم من العدل، وخصوصًا أن الخلفاء امتازوا بالانحياز في قراراتهم الاقتصادية والاجتماعية نحو الفقراء.
أما في ما يتعلق بالمعروف الذي هو مصلحة دائمة دينية ودنيوية لا يحدّها الزمان ولا المكان، وعلة دائمة وحاضرة حضور الإنسان في الحياة. وهو كذلك وصف لازم النشاط الإيجابي للإنسان المسلم على الصعيدين الفردي والجماعي. يؤكد المؤلف أن دولة الراشدين قد فشلت في توسيعه وذلك لأسباب تتعلق بحداثة الدولة الإسلامية وطغيان الهموم العسكرية والأمنية.
أما الفصل الثالث “دولة العصبية: الإسلام السياسي والتاريخي” فيوضح الكاتب فيه أن المخاض التاريخي العسير ما بين العامين 36 و41_هجريًا_ والذي أدّى إلى ولادة دولة العصبية، كان بمثابة التأسيس الثاني للدولة الإسلامية بعد التأسيس الأول في سقيفة بني ساعدة.
وفي تلك المرحلة اكتسبت الدولة الإسلامية نظريتها السياسية والتاريخية التي استمرت حتى مشارف العصر الحديث، وقد انتقلت في هذه المرحلة البيعة من كونها حقًا للأمة في عهد الخلفاء الراشدين إلى حق عصبي تمارسه عصبية الدولة وباقي الأمة تبع لها، من دون أن تفقد البيعة صدقيتها.
بالنسبة إلى العدالة فقد عرفت ازدهارًا كبيرًا حيث تمكّنت الدولة من شريعة مكتوبة شكلت مرجعية موضوعية للأحكام، وكذلك حققت الدولة تطورًا كبيرًا في مفهوم العدالة الاجتماعية، فلم يكتف العقل السياسي الإسلامي بعدل الشريعة الذي يتحقق من خلال أحكام الفقهاء في النوازل والأقضية المختلفة، بل تجاوزه إلى الاهتمام بأرزاق وحظوظ الفقراء والمساكين والمحاويج، والمنكوبين… إلخ، وذلك بتكليف الإمام أخلاقيًا وسياسًيا بسد خلتهم وفك كربهم، ولكن فيما يتعلق بالحضور التاريخي لأصل المعروف فقد ظل محدودًا وخاضعًا للهواجس العسكري.
أزمات وحاثة
وفي الفصل الرابع “الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة” يستعرض الكتاب كيف كانت الدولة العصبية في بدايات العصر الحديث تمر بأزمة قادتها نحو الضعف بسبب المساس بأسس (البيعة، العدل، المعروف).
أدت هذه الأزمة إلى تبلور أسس الحداثة السياسية وإلى وجود إحساس بالحاجة إلى الدولة – الأمة، وقد أفصح الفكر الإصلاحي عن هذا ومهّد له ثقافيًا وسياسيًا غير أن بطء تحول دولة العصبية والتدخل الاستعماري حالا دون ولادة دولة الأمة- الدولة ولادة طبيعية، الأمر الذي تسبب للدولة الوليدة بمشكلة مع السياق، فباتت كمؤسسة وتنظيمات سابقة لواقعها وغير مفهومة في نطاقه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي، وكذلك سببت لها أزمة شرعية أخلاقية بسبب انقطاعها عن الحركة الإصلاحية التي أخصبت التاريخ والمجتمع وهيأتهما لحمل الدولة – الأمّة، واستقبالها.
ويختم الكتاب بتعريف الدولة الإسلامية وهي دولة الوقت التي تعمُر العالم وتشبه جيلها من حيث الشكل والمؤسسات والأساليب، وهي تطبيق من التطبيقات التي تسود العالم للدولة _ الأمة، لكن الفارق بينها وبين النماذج الأخرى هو أخذها بعين الاعتبار الرسالة الأخلاقية والإنسانية للإسلام، الشيء الذي يضفي عليها معنى خاصًا، حيث تبدو من زاوية هذا الفرق كيانًا أخلاقيًا، خاضعًا لقيم معيارية عليا، إنسانية ومثالية، تمنح الدولة الإسلامية تفوّقها الرمزي على غيرها من تطبيقات الدولة – الأمّة، وتنجيها من بعض الآفات البنيوية التي أصابت أبرز تطبيقات الدولة – الأمّة في الحقبة المعاصرة.
د. محمد جبرون
باحث مغربي حاصل شهادة دكتوراه في التاريخ، أستاذ التعليم العالي مساعد بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين (تخريج أساتذة التاريخ) بطنجة منذ العام 2011، ومن مؤلفاته: مفهوم الدولة الإسلامية: أزمة الأسس وحتمية الحداثة، له مقالات ودراسات منشورة في مجلّات علمية محكّمة.