أنْسَنَةُ الاقتصاد لِعَقْلَنة الصراعات

د. أسامة عثمان (*)

ousama ousmanالأزمات التي لا تنفكُّ تتفاقم في العالم العربي، وإنْ تغلَّفت بأغلفة شتّى، إلا أنّنا لا نستطيع إغفال السبب الاقتصادي، الذي لا يتطلّب – لكي يعمل- مستوى معرفيّاً معيّناً، أو وعياً مخصوصاً. ذلك أنه لصيقٌ بالإنسان، وبحاجاته المادية قبل المعنوية.

هذا العامل الاقتصادي تضاعفَ أثرُه بعد الأزمات الاقتصادية العالمية وبعد العولمة الاقتصادية التي قلَّلت من دور الدولة الرِّعائي، لصالح مزيد من الليبرالية الاقتصادية، فخفَّضت من فرص “العدالة الاجتماعية”، في حين ألهبت العولمة الإعلامية الرغبات، وأجَّجت شعورَ قسم من الناس بالحرمان. في ما يلي نظرة خاصة إلى الغنى والمال…

نحن هنا بين نظرتين ونظرة ثالثة قد تتقاطع معهما. الأولى تلك التي لا تُعير المادة اهتماماً كبيراً، ولا المال والغنى، بل إنها قد تذهب إلى تسويغ الفقر، وعدم التعامل معه كمشكلة تتطلّب حلولاً اقتصادية. والنظرة الثانية ترى في الماديات والأموال علامةَ النجاح الأولى ومقياس التفاضل الحقيقي. وهذا يُشرْعِن، أو قد يسوِّغ للفرد- ولو بتجاوزات معيّنة- السعيَ إلى التملّك، بأيّ ثمن، وبكلّ جهد، ولو على حساب نفسه ومجتمعه والقيم الإنسانية. والثالثة ترى أن الغنى المادي له قيمة، فإن لم يُحصّل فمعنى وجود الفرد لم يُمسّ، وقيمته لم تُنتَقص، ولكن السعي له مطلوب على مستوى الفرد والمجتمع والدولة.

وفي نقد أولوية المال والتملّك يقول علي عزت بيجوفتش في كتابه “الإسلام بين الشرق والغرب”:” إنَّ تقليص الإنسان إلى مجرّد وظيفة إنتاجية استهلاكية حتى- ولو كان له مكان في عمليات الإنتاج والاستهلاك- ليس علامة على الإنسانية، وإنما هو سلب لإنسانيّته”.guilaf islam

وأخوف ما يخاف على الإنسان أمام هذا السعي المحموم وراء المال والثراء أن يستحيل عبداً لهذا الأمر الخارجي، لا يجد معنى لحياته إلّا به، في حين أن هذه الحاجات المادية نفسها متقدّمة باستمرار لا يمكن اللحاق بها، أو إدراكها.

ولننظر أولاً في الفلسفة التي ترى أن الإنسان هو الذي يحدِّد رغباتِه، لأنها الأساس الفكري التصوّري. وهنا يشدّد الفلاسفة الطاويّون والبوذيّون على ما سبق أن أكّد عليه الفلاسفة الرواقيّون، ولاسيّما في ما يتعلّق بحقيقتين أساسيّتين: أولاهما: أن الانفعالات الإنسانية ذات أصل معرفي. ثانيهما: لكي نضبط أو نغيِّر مشاعر الفرد فمِن الأفضل أن نغيِّر أفكارَه أوّلاً.

وإنّا وإنْ كنّا لا نستطيع أن نَحْمِلَ الناسَ على تجاهل حاجاتهم المادية ورغباتهم في التملّك، إلا أننا تماشياً مع هذا الرأي عن أهمية تصوّرات المرء التي تحكم سلوكَه، يمكننا أن نطالب بوضع هذه القيمة في موضعها من دون إفراط ولا تفريط. ووَفقاً لإريك فروم Erich Fromm صاحب كتاب ” فنّ الوجود” فـ “إنَّ الشخص الذي ينزع إلى التملّك هو شخص يعتمد دائماً على العكازات أكثر من اعتماده على قدميه، فهذا الشخص يستخدم وسيلةً خارجية للوجود، ولكي يكون ذاته التي يرغب بها ( أو التي ترغب هي أن تكونها)”.

ثم يوضح كيف تكون العلاقة بالممتلكات:” لكن المشكلة لا تكمن في رغبة الفرد بامتلاك شيء ما أو عدم رغبته بذلك، بل تكمن في ما إذا كانت شخصية المرء قد تشكَّلت باتجاه ما يمتلكه أو ما لا يمتلكه. فالنزعة باتجاه عدم الامتلاك هي نزعة تملُّكية أيضاً. وهنا لا يدعو فروم للزهد، بل إن السؤال الدائم يتعلّق بما إذا كان التملّك أو عدم التملّك مرتبطين بثبات هدف الفرد في الحياة وبثباته على هويته الذاتية. من الصعب دائماً التمييز في ما إذا كان المرء يتملّك شيئاً بأسلوب التملّك أم بأسلوب الوجود، أو كما يقول فروم: فيما إذا كان المرء “يمتلك كما لو أنه لا يمتلك”. وهنا يتقاطع مع مفهوم الإسلام عن الدنيا: “أن تكون في أيدينا لا في قلوبنا” بأن تظلّ وسيلة ولا تصبح رؤية.

ولكن هل يُسوَّغُ الفقر؟

لا يعني، بالطبع، تحريرُ الفرد من التملّك وفكُّ ارتهان وجودِه له الإقرارَ به على الصعيد الاجتماعي، وإغفال التنظيم الاقتصادي الذي يتغيّا الحدَّ من سوء التوزيع للسلع والخدمات، وهذا ما شغل فروم وحاول الاحتياط له، إذ قال في مقدمة كتابه “فنّ الوجود”: “اعتقد أنه من الممكن أن يسيء القارىءُ فهمَ القصد من الكتاب، ويتّجه إلى البحث عن الشفاء الروحي في وعيه وتطوّره وتحليله لذاته فحسب، من دون تغيير الوقائع الاقتصادية التي تنتج عنها حالة التملّك، وللبحث عن جذور ظاهرة النزوع الجماعية لـ “التملّك” وهي ظاهرة نموذجية في المجتمعات المرفَّهة والقادرة على امتلاك كلِّ شيء، علينا العودة إلى الوقائع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية للمجتمع الصناعي الحديث، وتحديداً في تنظيمه للعمل وأساليبه الإنتاجية“.guilaf akhlak

لكن ماكس فيبر Max Weber في كتابه:”الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية” يبرِّىء الرأسمالية من هذا الجشع أو التهالك وراء التملّك والاستهلاك، ويقول:” إن “الرغبة” في “الكسب”، و”البحث عن الربح ” عن المال، عن أكبر كميّة ممكنة من المال، كلُّ ذلك ليس له بذاته أيّة علاقة بالرأسمالية. مستخدمو المقاهي، الأطبَّاء، الحوذيُّون، الفنّانون…. كلُّهم يمكن أن يكونوا مسكونين بهذا التعطّش للكسب” فالحاجة للكسب غير المحدود لا تنطوي أبداً على مقوّمات الرأسمالية، ولا حتّى على ” روحها”…

لكن من المؤكّد أن المجتمع الذي يجعل من مقدار التملّك معياراً للنجاح، وأحياناً دون الالتفات الكافي إلى كيفية التملّك وأسبابه يكرّس القيمةَ المادية كقيمة عليا، ويحفزّها. إذ إن الشعور بالقوّة- كما يرى فيبر- والحظوة الاجتماعية التي يوفّرها الغنى يلعب أيضاً دورَه. ولكن هذه القوّة تستحيل إلى ضعف بل إلى اضمحلال في حال تعميم النظرة المادية كمعياريّة، وذلك كما يقول فروم : “حين يصبح التملّك معادلاً للوجود ومعادلاً للحياة…وحين تتسع دائرة التملّك إلى امتلاك الآخرين وآرائهم. وهذا قتل لهم وقضاء على كينونتهم. حينها تمتلكُه ممتلكاتُه؛ لأنه حدَّد قيمتَه بها، أو جعلها المحدِّد لوجودِه وقميته ومستواه من الوجود.”

وإذا كان فروم قد جعل الخيار بين الكينونة والتملّك، فإن المرء هنا قد لا يشعر بكينونته، أو يحسّها منقوصة ومنتقَصة إذا لم يتمكّن من التملّك الكافي، ولاسيّما حين يطال ذلك الأساسيات الضرورية كالطعام والمسكن والملبس والعلاج، وهذا ما قد يغذّي السلوك العدواني، كما جاء في كتاب “سيكولوجية العدوانية وترويضها” لعصام عبد اللطيف العقّاد:” فالسيارات الفارهة والقصور وأماكن اللهو رموز للأغنياء يمكن أن ينصبَّ عليها عدوان الفقراء. والشرطة رمز لحكومة مستبدّة يمكن أن يوجَّه إليها العدوان”. مع أن هذا الشعور السلبي المتوقَّع من الفقر، وفقاً لعصام العقّاد، يمكن أن يولِّد طاقة إيجابية، أو ما يسمّى بالعدوان الإيجابي. وكان باخ Bach قد ركّز باهتمام بالغ على “الانتفاع بالطاقة العداونية البنّاءة” حيث تكون صيغ التعبير عن العدوان وتوجيهه هي الطرق التي تتحكّم بفاعلية أو على الأقلّ تخفض إلى الحدّ الأدنى من العداء المميت (القاتل) وترفع إلى الحدّ الأقصى الصيغ البنّاءة أو المؤثّرة للعدوان والتي يمكن أن تؤدّي إلى النموّ.

ولكن ذلك مشروط برؤية تصويبية ذاتية ومجتمعية قِيَميَّة عن الفقر والغنى، تعزّزها تدابير اقتصادية، تحدُّ من استشراس الفاقة واحتواء سلبيات العولمة. وهنا يميّز سومبارت Sombart في مقولاته حول تطوّر الرأسمالية بين أكبر اثنين من المبادىء الموجِّهة في التاريخ الاقتصادي:” إشباع الحاجات” و“الكسب”.

فيمكن أن تنصبَّ المعالجة على الاثنين مع التركيز أكثر على إشباع الحاجات، ولا سيّما الضرورية، لكونها الأكثر إلحاحاً. علماً بأن الرغبة في الكسب تظلّ مفتوحة المدى، بحسب تطوّر المجتمعات الاقتصادي والتقني، وبحسب أولويّات الفرد وقدراته.

ولم يعد بالإمكان بعد أن تبيّنت النتائج السلبية للعولمة التهوين منها، ولاسيّما على الاقتصادات الضعيفة والفئات الاجتماعية الضعيفة. فقد بدأت الوقائعُ تصدِّق التحذيراتِ من التأثيرات الضارّة للعولمة، كما كان مؤلّفيْ كتاب :” فخ العولمة” هانس بيتر مارتن Hans Peter وهارالد شومان Harald Schumann قد حذّرا بقولهما: “إذا ما سارت الأمور على منوالها الراهن سيكون في القرن القادم [ الحالي] هناك فقط 20% من السكّان الذين يمكنهم العمل والحصول على دخل والعيش في رغد وسلام. أما النسبة الباقية (80%) فتمثّل السكّان الفائضين عن الحاجة الذين لن يمكنهم العيش إلا من خلال الإحسان والتبرّعات وأعمال الخير”.

وفي سياق أنسنة الاقتصاد يرى المؤلّفان أن إبعاد الدولة عن التدخّل في الحياة الاقتصادية وتجاهل البعد الاجتماعي تحت دعوى أن “السوق ينظِّم نفسَه بنفسِه” وأن كلّ امرىء يأخذ بحسب إنتاجيّته ما هي إلا أوهام ستؤدّي إلى تدمير الاستقرار الاجتماعي الذي عرفته الدول الرأسمالية الصناعية في عالم ما بعد الحرب.

ويعتقد المؤلّفان أن ديمقراطية العولمة التي تنحاز بشكل مطلق للأغنياء هي المسؤولة عن كثير من مظاهر التوتّرات الاجتماعية المتصاعدة في مختلف أصقاع المعمورة، مثل العداء للأجانب في البلدان الصناعية المتقدّمة، وتهميش الفئات المستضعفة وما ينجم عن ذلك من آثار نموّ النزعة الشوفينية، والتظاهرات والاعتصامات والاحتجاجات الجماهيرية، ونموّ الجريمة والعنف وانتشار المخدّرات..إلى آخره .

وهذا يعيدنا إلى الأحوال العربية المضطربة، حيث تسهم الأوضاعُ الاقتصادية المتردِّية لعدد من الدول العربية في إشعال الأزمات، واستثارة التناقضات الطائفية التي تصبح للكثيرين في حالات ضعف الدولة، الملاذَ الضروريَّ على المستوى الاقتصادي والنفعي العام.

*******

(*) باحث وكاتب من رام الله- فلسطين

مؤسسة الفكر العربي – نشرة افق

اترك رد