د. جــودت هوشيار
شبكة الإنترنت ،من أهم الأنجازات التكنولوجية على مدى التأريخ البشري ، ولكن لا تزال إمكاناتها ومسار تطورها اللاحق غير مفهومة تماما ، ولا أحد يمكن أن يتنبأ على وجه الدقة بما تحمله من مفاجآت ، حتى في المستقبل المنظور.
كانت في البداية مجرد أداة لنقل البيانات الرقمية من جهاز كمبيوتر بحجم غرفة كبيرة الى جهاز آخر بنفس الحجم تقريباً، ولكن تحوّل بسرعة الى وسيلة فعالة للتعبير الذاتي بأشكال متنوعة. وهي تبدو غير مادية ولكنها تتطور بأستمرار وتزداد تعقيداً من يوم إلى آخر . وتحمل الفوائد والشرور معاً، وبدأنا الآن ندرك مدى تأثيرها على عالمنا.
في كل لحظة مئات الملايين من البشر يخلقون ويتبادلون ويحصلون على كميات هائلة من المعلومات في فضاء حر لا تحده، في الواقع، أي حدود جغرافية أو سياسية، لذا يتعذر أن تطبق إخضاع الشبكة للقوانين الوطنية لهذه الدولة أو تلك. وبفضل الإمكانات الجديدة للتعبير الحر عن الرأي والتدفق المعلوماتي الهائل نشأ المشهد الأفتراضي المعقد المعروف لنا .
تمعن أيها القاريء كم موقعاً الكترونياً زرت ؟ ، وكم رسالة الكترونية أرسلت أو تلقيت ؟ ، وكم من الأخبار والقصص والتقارير والمقالات قرأت ؟ ، وكم من الحقائق الجديدة عرفت ؟ ، وكم من علاقات جديدة أنشأت ؟ ، وكم من الأحلام ولدت هنا وتحققت ؟. كل ذلك بفضل هذه المنصة الشاملة.
قبل ظهور الإنترنت، كنا نعيش في نوع من حقبة ظلامية: كان علينا أن ننتظر طويلا لسماع الأخبار من الراديو أو التلفزيون أو نقرأ عنها في الصحف في اليوم التالي. ونضطر للذهاب إلى متجرللتسجيلات الموسيقية لشراء ألبومات جديدة ، تحتوي على الأغاني والموسيقى التي نحبها.
وإذا لم نجد تحت يدنا مصدراً يتضمن المعلومات التي نحتاجها –كنا نتوجه إلى مكتبة عامة ونقضي وقتا طويلا من أجل العثور على ما نبحث عنه في بطون الكتب والمخطوطات المغبرة.
اقتحمت شبكة الإنترنت حياتنا وغيرت كل شيء فيها، نحن نعرف اليوم كل ما يحدث في العالم لحظة بلحظة، نعرف عن الزلازل قبل أن تصل إلينا، نستطيع أن نغير بأنفسنا أي مقال في الأنسكلوبيديا الحرة، يمكننا أن نطلع على الأخبار أولا بأول وعلى الآراء المختلفة والتعليق عليها. يمكننا نشر مقالاتنا بسرعة ليطلع عليها القراء في شتى أنحاء العالم ونتبادل المعلومات والرسائل والصور مع من نشاء. كل ذلك ببضع نقرات الماوس.
الإنترنت غيرت ثقافتنا، فنحن اليوم نحصل على الفور على إجابات لأي سؤال يخطر ببالنا. يمكنننا أن نوجه الأسئلة حتى إلى الرؤساء والزعماء وقد نتلقي منهم الإجابات أحياناً.
وفي الوقت ذاته، فإن عدم وجود أي نوع من التوجيه المركزي على الشبكة ، أتاح الفرص للعنصريين والمتطرفين والإرهابيين نشر سموم الكراهية والعنف في العالم على نحو غير مسبوق.
ومع توسع هذا الفضاء سوف تتغير تصوراتنا عن كل مجال من مجالات الحياة الإنسانية – من التفاصيل اليومية إلى المفاهيم الأساسية المتعلقة بالشخصية، والعلاقات مع الآخرين، وحتى سلامتنا الشخصية. وتحت الضغط الشديد للتكنولوجيا الجديدة ستنهار الحواجز التقليدية على طريق الاتصال بين البشر: المسافات، اللغات، محدودية فرص الحصول على المعلومات – ويبدأ صعود موجة جديدة من الإبداع وتنمية الطاقات البشرية الكامنة. وقد أدى التوسع الهائل لشبكة الإنترنت إلى سلسلة من التحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية الأكثر إثارة للدهشة في التاريخ.
والآن ، على عكس الأيام الخوالي، حدثت تغيرات عالمية حقا.ً لم يحدث من قبل قط أن ظهرت فرص أو امكانات أو خيارات لمثل هذا العدد الهائل من الناس من مختلف البلدان . رغم أن هذه الثورة التكنولوجية، ليست الأولى في تاريخ البشرية بطبيعة الحال، ولكن لأول مرة في التأريخ يمكن لأي شخص، أينما كان ومتى شاء، أن يخلق معلومات إلكترونية، أو يمتلكها ويوزعها في الوقت الحقيقي، دون إشراك وسطاء.
ولكن كل هذا هو مجرد بداية …