الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ

الكاتب بيار شلهوب

بادر المثقفون الليبراليون المتعطشون إلى الحرية والديمقراطية، عشية ما اصطلح على تسميته «انتفاضة guilafالربيع العربي» إلى تحبير مقالات داعمة لثورات الشعوب العربية، فالمحظور بات متاحاً، والخشية من الملاحقات والاعتقالات، لم تعد هاجس المنتفضين والمنظرين للمآلات المرجوة، بعد انكسار هيبة السلطة وانسحاق شرفها، الذي لم تستقم له كرامة طوال عهود حكمها القائم على الظلم والطغيان.

لكن نشوة التمتع بعبق الحرية الموعودة والانعتاق من نير الفساد والاستبداد بددتهما التحولات التي انحرفت بالثورة عن مسارها، بعد أن صادرت التنظيمات السلفية – الإخوانية تضحيات الثوار، وحوّلت الربيع العربي إلى خريف أصولي، فالشباب الذين دشنوا هذه الثورات، ليسوا هم من قطفوا ثمارها في نهاية المطاف، إنما التنظيمات الإخوانية – السلفية.

هذا التقديم استدعته قراءتنا لكتاب المفكر السوري هاشم صالح الصادر عن دار «الساقي»، تحت عنوان «الانتفاضات العربية على ضوء فلسفة التاريخ». وبرأيه فإن سبب هذا التقارب بين الانتفاضات العربية والثورات الدينية وافتراقهما عن الثورات العلمانية الحديثة يعود إلى غياب التنوير الديني الحقيقي، الأمر الذي مهّد لسقوط الثورات في أحضان الأصوليين، فالثورة الفرنسية برأيه لم يكن مُقدراً لها أن تُدشن عالم الحداثة والحرية لو لم يُمهد لها فلاسفة التنوير الطريق، ويُفككوا بنجاح مقولات الأصولية المسيحية.

الثورة الفرنسية كما يقول، كانت في وجه رجال الدين، لم ترفع صورهم في التظاهرات الحاشدة التي شهدتها باريس، بل رفعت صوراً مضادة لهم، صور فلاسفة التنوير جان جاك روسو وفولتير، وفي حين ان رجال الدين المسيحيين اختفوا خوفاً من بطش الثوار، بعد إسقاط سجن الباستيل الرهيب، الذي كان رمزاً لسلطة الاستبداد المطلقة فإن الثورات العربية تباهت برفع صور المتدينين المسلمين.

ألم يأت الربيع العربي بأي جديد سيكون من الخطأ الاعتقاد بذلك يقول المؤلف. لقد حرك المستنقع الآسن وكشف عن الاهتراء في بنية الأنظمة المتكلسة فكرياً والمتحنطة إيديولوجيا

ويوضح رداً على الذين أخذتهم الحماسة من أصحاب الفكر التقدمي، الماركسي وحتى الليبرالي واعتقدوا أن الماضي التراثي السلفي – الإخواني أصبح من مخلفات التاريخ بأنه الآن أقوى من أي وقت ، فتجاوز المرحلة الآسنة من عمر هذا الشرق، لا تتحقق بالقفز فوقها، إنما بمواجهتها، إلى حين استنفادها، ودفع ثمن هذه المواجهة باهظاً.

ورداً على أسئلة المتخوفين والمتشائمين ممن خذلتهم الثورات العربية، وزادت من جرعة الخيبة في نفوسهم، يوضح بأن دخول العرب في نفق الأصولية، لا يعني انتصارها، بل بداية انحسارها. فالتاريخ تبعا لنظرية هيغل يحقق أهدافه أحيانا بطرق لا تخطر على البال، ومنها استخدام القوى السلبية المضادة لحركة التقدم من أجل التقدم ذاته، وهذا شيء ضروري برأيه حتى يتم التخلص من كل المفاسد، التي شكلت عقبة أمام تقدمه.

فلسفة التاريخ التي انطلق منها الكاتب لتفسير ظاهرة الربيع العربي، تستلهم جوهر فكر هيغل التفكيكي – التحرري، إذ يستحيل على المجتمعات العربية أن تتقدم خطوة إلى الأمام قبل القيام بهذه العملية التفكيكية، القائمة على عملية التنظيف والغربلة ليتم التخلص من القشور الميتة والمتراكمة التي تعيق انطلاقته.

خطوة مكلفة ولا شك، لكنها بنظر الكاتب حاجة ملحة لتتمكن مجتمعاتنا من التحرر من تبعات الماضي. وبزوال مرحلة الاستبداد وفشل المرحلة الإخوانية الأصولية ستخلو الساحة لليبراليين والحداثيين، وستشهد المجتمعات العربية ثورة فكرية حقيقية، وتلحق بها الثورة السياسية، عندئذ يمكن القول إن الربيع العربي قد بدأ.

ولفهم مجريات ما يتخبط به مجتمعنا العربي منذ ما يزيد على خمس سنوات يجب فهم صيرورة التاريخ ونتائجها.

اترك رد