“الباتايون” و”أبو لولو”

الأديب مازن ح. عبود

mazen-1شاهد “برهوم” “الباتايون” متكئاً على عصا، يسند حائطاً. كان يهزّ بعصاه وينظر إلى “أبي لولو البريتالي” المنهمك بحشد أكبر تعاطف مع قضيته. فهمّه أن يحنن قلوب الناس عليه في سوق كفرنسيان، كي يتلقى تبرعات أكبر.

سمعه يقول: “ضربني الله. وأنا قبلت. فقد تبين من الفحوص الطبية بأنّ صديقكم “أبي لولو” المحبب مصاب بداء السكري. هلمّ ودّعوه. فهو غير قادر على تغطية أكلاف الاستشفاء، وبالتالي مائت. اذكروني بالخير. وقولوا عرفنا يوماً “أبا لولو”. ولا تبخلوا على عائلتي بفتات خبزكم اليومي”.

ومن ثمّ يروح يعرض عليهم نتائج الفحوص الطبية، التي كانت تفزع، وتتطلب تدخلا طبياً استثنائياً. حتى أنّ “لبلوب” الجالس دوماً على كرسيه يستهزئ بالمارة، صدّقه. وراح يعمل على تحريك ضمير “كفرنسيان” النائم. إذ أنّ أحداً ما كان يتصور أنّ نتائج المخبر، الصادرة باسم “ابن آوى البريتالي” تعود واقعياً للأرملة “جنفياف” جارته التي تعد مصنعا للسكر. فهو قد عرض عليها خدماته. فسرّت منه. واعطته وديعتها. وحزنت هي حين أبلغت أنّ “داء السكري” خاصتها قد انتقل إليه بطريقة غريبة. فندمت على تكليفه نقل أمانتها. وتمنت لو أنها لم تسلمه الأنبوب الحاوي للسائل.

انشغل الناس في “كفرنسيان” بحالة غريبة بمرض “أبي لولو” الفقير. إلا “الباتايون”، شكّ في الموضوع، وقال: ” إنه لص خلّاق لا يفتقر إلا إلى الله”. فـ”الباتايون” لم ينس بعد كيف أنّ شراكته معه في اقامة مزرعة بقر للحوم باءت بالنصب. أساء إلى من رغب بانتشاله من الفشل والعوز. واتفاقيتهما كانت تقضي بأن يموّل الأول شراء أبقار صغيرة لللحم. على ان يتعهد الثاني بتربيتها كي تباع للذبح عندما تثمن. ويتم اقتسام الارباح مناصفة. فكان أن قام “أبو لولو” بإنفاذ الاتفاق المبروم بعد أسبوع من شراء “الباتايون” صغار الابقار. ولمّا راجعه بالموضوع أبلغه أنه نفّذ الاتفاق الذي لم ينص على مهلة زمنية. والقانون لا يحمي المغفلين. واردف: “غدرتك”.

لم يتقبل “الباتايون”، المحارب الذي يحمل الرقم 77777 في الفرقة العاشرة في جيش الانتداب، ضرب “البريتالي”. وراح يتحسر قائلا: “أنا الذي هزمت جيوش فرنسا “بيتان”. وصادقت “ديغول”. واستبسلت في فلسطين. فأنقذت فرقة، من أيدي اليهود. قد غلبني ابن آوى صغير من حارة “بريتال” في “كفرنسيان”. تبا، تبا لك يا عمر، ماذا تصنع بالرجال؟”.

ثمّ راح يرمي كلماته بالفرنسية في القتال والثقافة العسكرية، علّه يعوّض بذلك معنوياً نكسته أمام “أبي لولو”. وراح “برهوم” يسجل ما سمعه لمراجعة القاموس. فوجد أنّ العمر بدل في نطق بعض كلماته. فصارت تخرج على هواها.

ثمّ سأل “الباتايون” “برهوم” ما إذا كان يتعلم. وطلب إليه أن يكلمه بالفرنسية التي قال إنها إرث خرجت مع أبيه من حقول الفستق في السنغال حيث كان يعمل، وأنضجتها الدماء. فصدح “برهوم” بالفرنسية، عارضاً عضلاته:”إنّ الشمس تشرق”.

فضحك “الباتايون”. وردّ عليه بالفرنسية: “وستبقى كذلك يا صبي”. أعجبته العبارات التي كانت تستعمل ككلمات سر في فرقة الشرق في جيش “فرنسا الحرة” في الحرب العالمية الثانية في تلك الأيام. وصار يصدح:”الله على تلك الايام!! شو عرفك يا صبي؟”.

ثمّ طلب إليه أن لا يفضي بها إلى أحد وبخاصة “أبي لولو” الذي كان يسميه “ابن آوى البريتالي” أو أياً من جماعة الشر مثل جماعة الجنرال الخائن “بيتان”.

ثمّ تذّكر الجنرال “ديغول”. وراح يشهق بالبكاء. استحضره وراح يبلغه بما آلت إليه أحوال كفرنسيان وبلاد الغال. أبلغه أنّ “الشرّ قد استوطن القلوب حتى أنّ حرباً عالمية ثالثة أضحت مطلباً، لزوم تنظيف “كفرنسيان” والناحية من الهوان.
ثمّ تطلع بـ”برهوم” وقال: “خبئ وقودك و”المونيتيون” أي المؤنة يا ولد. وهلمّ وافني كي ألقنك دروساً في قتال “الزعران”. فإنّ “ابن آوى البريتالي” وإخوته قد ملؤوا الأرض”.

حمل عصاه، وراح يراقصه، ماشياً مشية عسكرية كفتى في الرابعة عشر ربيعاً من العمر، صادحاً: “آن دي تروا، أي وأحد واثنان وثلاثة. هيا يا أولاد الوطن إلى الجهاد”.

اترك رد