الوحيد في بستان بلاغته

الشاعر قزحيا ساسين

kozhaya sasineكنت طفلاً أؤلّف فراشات لأطاردها وأعيش لذّة الجناح. وكان لي في اللّغة طفلة أحبّها ومجازًا غريبًا ينتسب إلى زرقة عينيها.

ثقبتُ سورًا من أسوار اللّغة برأس قلمي، ومددتُ منه عينًا، فرأيت في بستان البلاغة رجلاً تحت عمامة يشذّب شجرة التشبيه بالمقصّ الحرير، وينحني لعشبة الكناية وهي تسأله قليلاً من حبره على عطش، بينما الاستعارة تضيء له في وردة يعلوها عطرها مئذنة طاعنة في السماء.
..
نعم، رأيته هناك، راعيًا لأسراب عصافير، ينثر لها القمح على بساط باله الأزرق ويجود على أجنحتها بما ينقصها من عناد الحرّيَّة.

رأيته، يضع قلبه في حضنه، ويقرأ له فصلاً من كتاب الجمال، وفصلاً من كتاب الجبين، وفصلاً من كتاب السماء والأرض اللّتين من الممكن جدًّا أن تلتقيا تحت سحابة موسيقى راقية، لا تمتّ إلى خرير الأنهار الحمر بصلة.

كان هناك، بينه وبين ظلّه ملاك متأثّر بأفكاره التي تقول الله والإنسان بلا سيف على حصان، وبلا احتمالات تسمح بتسلّل قرون الشياطين إلى النصّ. هذا الملاك يحبّه الله كثيرًا لأنّه يأتي إليه بسلَّة أخبار تطرب القلب، ضيَّفه إيّاها رجل تحت عمامته، في بستان البلاغة.

نعم، رأيت السيّد هاني فحص وحيدًا في بستان بلاغته. رأيته يكثر في وحدته. وتكثر عمامته. ويكثر مقصّه الحرير.
هو رجل، بشّرَ نفسه برجولته، قبل أن يبشّر الآخرين. امتلأ من توقه إلى الاختلاف، قبل أن يرسل صوته في برّيّة الدنيا.

بربّكم، من يستطيع أن يعبر الجسر معه ويتحدّى إرادة الماء الأسود تحته؟ ومن يستطيع أن ينزع السهم من صدره ويعيده إلى تراب حديقته فيتعملق شجرة حُبّ؟!

لا أعرف، لماذا لا أستطيع رؤية صديقي السيّد هاني فحص إلاّ وحده!

وحده، كفكرة لا شريك لها في خاطر إله. كصرخة تتغلغل في لحم الأودية قبل أن يصير لها غمد من صداها. كصفعة على وجه صخرة لا تؤمن بصلابتها…

هاني فحص، من القليلين البارعين في صناعة الأزمنة. إلاّ أنّ الأزمنة التي يصنعونها يرتديها الغد، باعتبار الحاضر جبانًا يخشى سفّاحيه ولا يجرؤ على إدارة ظهره لقبائل من اللحى الطالعة من كتاب التاريخ، كأنّها الشباك ممتلئة من رمل الصحراء، والراغبة في حمل رأس الغد على صينيّة من فضّة إلى الأمس الذي لا يزال حاكمًا سعيدًا على عروش الشرق.

نعم، إنّ هاني فحص حصّة الغد. يومُنا صغير عليه مثلما الصحراء لا تتّسع لفراشة، ومثلما العنقود الخائف لا يتّسع لسكرة.

غدًا يزورنا السيّد هاني. يمسح جباه أولادنا وأحفادنا بزيت الأعجوبة التي يأتيها البشر، وحينئذ تكتفي السماء بالتصفيق لهم.

السيّد يؤمن بالصوت، ويعرف كيف يصير وعمامته صوتًا لا ينال منه سيف الوقت ورمحه. ويعرف أنّ الكلمة التي صنعت السلام بين الله والإنسان، هي وحدها القادرة على اجتراح السلام بين آدميّي الأرض.

السيّد، ذلك الرجل الوحيد في بستان البلاغة، صامتٌ هو اليوم. يخبّئ دمعته بين العمامة ورأسه. يعدّ على أصابع الروح آيات وقوافي. يحلم بأن يكون كيس المصل فوق سريره لمريض ليس معه ثمن الدواء. يضمّ لبنان إلى صدره بيدَيْ خياله. يسلّم رأسه لوسادة منحوتة من أسماء الأصدقاء. يمدّ يدًا إلى السماء، ويترك أخرى في يد الأرض…
أيّها السيّد،

قلبي مسجدك، وأهلي، موارنة قنّوبين، ينتظرون أن تؤمّهم يومًا في الصلاة وتقرأ لهم إنجيل القيامة.

*****

السفير  12-09-2014

اترك رد