بقلم: الأديبة ميشلين حبيبب
يقول الباحث والأكاديمي والمفكر الدكتور أنطوان طعمة أن “البحث هو صناعة معرفة جديدة” وهذا ما يثبته كتابه “سيمياء القصة العربية”، الذي صدر عن دار النهضة العربية بداية عام 2014.
“السيمياء، في تعريف أولي بسيط، علم موضوعه الرموز اللغوية وغير اللغوية في وظائفها التواصلية والتعبيرية، وفي بنائها واستجلاء دلالاتها القريبة والبعيدة، الظاهرة والخفية… وفضل علم السيمياء أنه يطمح إلى تقديم قراءة مسؤولة، تقيم الدليل الثابت على ما تذهب إليه… فسيمياء الأدب، في اعترافها للنتاج الأدبي بخصوصيته غير المنتقصة، تضع في حسابها، منذ الانطلاق وبكثير من الجدية، أن العمل الأدبي مركب تركيباً متعدد المستويات والدلالات والأبعاد، وأنه يخفي وراء بناه الظاهرة السطحية بنى أعمق هي في الواقع ما تهدف كل المناهج التحليلية إلى كشفه: القصة التي وراء القصة، والمعنى الذي وراء المعنى. فذلك يعني أنها ترفض ما تنطبع به الدراسة الأدبية من تقريبية وتجريبية وانطباعية واعتباطية في إلقاء الأحكام التقويمية. … وللسيمياء أيضاً دور مهم في تجديد طرائق التعليم والتربية”.
“سيمياء القصة العربية” هو أول عمل دراسي عربي يهدف إلى رؤية نقدية واسعة وحقيقية ترتكز على علم وليس على انفعالات واستنتاجات أو مسلّمات واعياً الحاجة إلى منهجية علمية تبتعد عن كل ذلك وتكوّن مرجعاً يعتمد عليه.
“الدراسة الأدبية التاريخية”
يقول الكاتب “أن أكثر الطلاب عندنا متخرجون من مدرسة “الدراسة الأدبية التاريخية” … وغالباً ما يطغى الطابع السطحي العام على المعلومات المجموعة، فتتورم الدراسة بسيل من التفاصيل، ينسى معها القارئ هدف الدراسة… وهكذا يصار إلى استنتاجات متهافتة، تذهب إلى ان العلاقة بين الأديب والعمل الأدبي هي علاقة انعكاس متبادل ليس إلا”.
يأتي سيمياء القصة العربية لينقض كل ذلك ويدعو إلى التعامل مع النص باحترام واحترافية مبنية على منهجية علمية إذ ليس أخطر على البحث العلمي من الوقوع في شرك المسلمات، والبديهيات المغلفة بوضوح خادع بحسب د. طعمة. من هنا سيمياء القصة العربية هو دراسة ذات منهجية واضحة تحترم النص وتتناوله من منطلقه هو لتوصله الينا وتصيب الهدف وليس العكس. إنه دراسة عميقة وجدية لا تقضي على روح النص كما تفعل بعض الدراسات التي تشرّح النص وتقتل روحه من كثرة ما تحمّله من دلالات أو تحمّله ما لا يحتمل أو ما لم يحمّله إياه الكاتب أصلاً.
أسلوبه قوي، واضح، ويصيب الهدف، لكنه أيضاً فلسفي تجب قراءته بتركيز كي لا يفلت منا المعنى وكي لا نمر مروراً سريعاً على جمل ومقاطع قصيرة مكُثفة ضمنّها الكاتب عمق رؤيته تأتي خاتمة بعد كل عرض وتحليل وتلعب دوراً مهماً جداً في الكتاب؛ مثال على ذلك ص.103 آفاق المقاربة السيميائية: “نأمل أن تفتح هذه المقاربة السيميائية للقصة آفاقاً جديدة، في فهم الأسس العميقة التي يستند إليها هذا العلم الجديد الذي حرر الرمز من غلو في اتجاهين: أول يعتبره مجرد انعكاس للموجودات، وثانٍ يعتبره كياناً وهمياً خيالياً. فللرمز كيانه الذاتي الصلب، بوساطته يبني الإنسان صورته للموجودات، وينظمها وبفسرها. فمن هذا المنطلق، سيظل الإنتاج الرمزي خير وثيقة لتقصي هوية شعب، ومعنى وجوده. وما القصة سوى تقصي مصائر البشر، عبر المنعطفات الحاسمة في وجودهم. كل ما لا يروى يبتلعه العدم، ويمحى، ويصبح في عداد “كأن لم يكن”، فالقصة ذاكرة البشرية الحية. للمقاربة السيميائية إمكانات كبيرة في تحري صورة الذات الشخصية والجماعية عبر الحكاية والرواية والأمثال والأدب الشعبي، والعادات والتقاليد وسائر أشكال التراث”.
دراسة الخطاب الأدبي
تكمن أهمية هذا الكتاب في الجديد الذي يطرحه وفي مقاربته للنص الأدبي انطلاقاً من علم السيمياء، مثبتاً في كل خطوة أن “دراسة الخطاب الأدبي علم، لا أدب على أدب أو خطاب على خطاب” ومحترماً في كل لحظة “حرمة” النص كما يسميّها د. طعمة، فتأتي دراسته علمية دقيقة ترتكز على أسانيد وإثباتات تتضمن إحصاءات لكنها لا تثقل العمل الأدبي بالأرقام.
ولا تكمن أهميته في ذلك فقط وإنما أيضاً في احترامه لفكر القارئ. يريد الكاتب هذا القارئ أن يستنير ويسمو بفكره وثقافته فتسمو معه الثقافة في لبنان الذي كان دائماً في قلب الدكتور طعمة منارة ثقافية والتي يقول إن فقدناها فقدنا كل شيء.
والجديد الآخر الذي حمله سيمياء القصة العربية هو التطرق إلى فن القصة القصيرة جداً. هذا النوع الأدبي الذي لم ينتبه له الكثيرون، تناوله الدكتور طعمة من خلال نماذج من أعمال زكريا تامر قام بتحليلها على ضوء علم السيمياء.
يعتبر سيمياء القصة العربية مرجعاً أساسياً، مما يعني أن الاكتفاء بقراءته مرة واحدة غير ممكن وإنما تجب العودة إليه واستشارته كلما أردنا كتابة قراءة نقدية أو أردنا قراءة عمل أدبي أو إنجاز عمل جامعي أو حتى مدرسي على ضوء صحيح.
ونقرأ في ص.62 “… ولعل أبرز ما يلفت في جديد النظرة السيميائية هذا الدور المعرفي الابيستيمولوجي في تحديد المصطلحات المستخدمة، والمفاهيم التي تطلق عليها، فالكلمات المستهلكة مثل نص، قصة، شخصية، حبكة، واقعية، عالم قصصي … كل هذه الكلمات تخضع، في المقاربة السيميائية، لمراجعة نقدية دقيقة تضبط استعمالها”.
من هنا سيمياء القصة العربية دراسة تستحق الوقوف عندها والانطلاق منها لنرى قصتنا اللبنانية والعربية على ضوئها ونعيد قراءة الكثير من الأعمال في ظلها فنفيها حقها ونسبر مكامن جمال وفكر كانت مخفية علينا عندما قرأناها من قبل ولم ننتبه أو لم نعرف كيف نجدها أو ننتبه لها.
إلى المهتمين بالأدب
يذكر الكاتب في المقدمة أن “سيمياء القصة العربية يتوجه أولاً إلى المهتمين بالأدب من باحثين ودارسين ونقاد وأدباء، وثانياً إلى أصحاب الاختصاص في مجالات علوم اللغة والسيمياء، وثالثاً إلى أهل التربية متخصصين وغير متخصصين من معلمين باحثين عن أفعل طرائق التعلم وأساليب التحفيز على المطالعة ومن معدي معلمين وواضعي مناهج ومؤلفي كتب مدرسية وأصحاب دور نشر ومن متعلمين وقراء وأهالي طلاب تواقين إلى تعلم الحياة واللغة، وإلى التجدد النوعي في ثقافتنا”.
وأجد أنه من الضروري لمن يتعاطى النقد أو القراءة النقدية ويسعى إلى خدمة الثقافة والحفاظ على مستوى عال منها وحمايتها والتعامل معها باحترام وموضوعية بعيداً عن الانطباعات والاسقاطات الشخصية أن يتّخذ هذا الكتاب مرجعاً ودليلاً. وهاجس الدكتور طعمة الحفاظ على الثقافة كي لا تصبح “صفحاتنا الثقافية مجرد حشو كلام وتأبين ومدح لا يخدم النص أو العمل الأدبي بل يبتعد عنه ويمدح من خلفه ناسياً ما أنتجه” كما يقول.
يجعلنا الكتاب متلهفين لإعادة قراءة مارون عبود وإملي نصرالله وزكريا تامر ورشيد الضعيف وجبران ونعيمة وتوفيق يوسف عواد وخليل تقي الدين ونجيب محفوظ والطيب صالح وكل من ذكر في الكتاب، على ضوء السيمياء (وتلك ضرورة وليس تلهفاً فقط) لنفهم عبقرية أؤلئك الكتاب في إطار دراسة جدية علمية وليس دراسة واهية يعمل فيها مبضع حاد.
مثلاً، يقول عن مارون عبود: … أن مارون عبود، وإن حرص على تجذير قصته في واقع جغرافي تاريخي محدد، فهو يحرص، في الوقت نفسه، على النفاذ من هذا الواقع الشمولي الإنساني العام. ….مارون عبود جدلي الطباع حتى المشاكسة. … وهو ينطلق من الواقع ليلونه ويكبره، حتى يصل به إلى حدود الانموذج”.
… ومارون عبود صاحب وجدان تعيس (كما أسماه هيغل) لا يمكن أن ينسجن في واقع جغرافي تاريخي محدد (واقع القرية اللبنانية مثلاً)، بل وضع في موقع المشاركة المصيرية في معاناة الوضع البشري كله. فهو يقول “إذا تعمق الكاتب في درس أشخاص من بلاده، فقد درس بالذات الفعل أشخاصاً من كل بلد، لأن الطبيعة الإنسانية هي هي في كل مكان، ولكن يجدر بالكاتب أن ينطلق من واقع بلاده الخاص نحو الإنساني العام”.
فيتغير مفهومنا لأدب مارون عبود ونرى أن عبقريته تكمن في كيف استطاع أن يكون شمولياً من خلال وقائع قرية صغيرة. وقد ارتقى مارون عبود بالقصة اللبنانية ووضعها في مصاف عالمي، لكن قليلين فهموا ذلك.
***
في النهاية يجب أن يكون الباحث شجاعاً حيث “أن النزاهة الفكرية هي التي تقوده” وهذا ما برهنه سيمياء القصة العربية الموضوعي والجدي والعلمي والذي يمكن اعتباره مدخلاً إلى دراسات أوسع وإلى علم الأدب كما يحلم د. طعمة.
وقد قال مارون عبود: “أما قصتنا فيجب أن تنبثق من عاداتنا وتقاليدنا ومحيطنا. بدون ذلك لا يكون لنا قصة، ويا ويل أمة لا قصة لها فإن ذكرها يذهب كالدويّ …”. ويقول الدكتور أنطوان نعمة : “… ونختتم هذا العرض الموجز لشبه العالم القصصي بالتأكيد على أن الأعمال الأدبية الخالدة هي تلك التي تقدّم للبشرية أروع سجل لرؤاها للإنسان والوجد. فالقصة ترتبط بمصيرنا”. ويحرص كتاب سيمياء القصة العربية أن يعطي القصة العربية حقها ويمنعها من أن تطمر تحت مفاهيم خاطئة.
أخيراً في قراءتي المتواضعة لهذا النتاج الفكري لا يسعني القول إلا ان هذا العمل الذي كتب بمحبة كما يشير الكاتب، لا يمكن الا أن يقرأ بمحبة وامتنان للذي كتبه. ففي وقت يسعى العدم لابتلاع الثقافة في لبنان والعالم العربي، يأتي كتاب يقف في وجهه ويقول له: لا.
كلام الصور
1. د. أنطوان طعمة
2. ميشلين حبيب
3. غلاف الكتاب