بقلم: الأديب إيلي مارون خليل
وكما تساءلتُ السّؤالَ المؤلمَ السّاخر، حول التّربية والمدرسة، وسِواهما، أتساءل، الآن، حول الحُبّ!
فما الحُبّ، وما مظاهره، وما خصائصُه؟ وكيف ينظر الحبيب إلى الحبيب؟ لِمَ قد ينفصلان؟ لِمَ يستمرّان؟ إلى ما هنالك من تساؤلاتٍ تُقلِقُ الكثيرين، وأنا واحد منهم، بل أكثرهم رغبة في المعرفة، وفي القلق!
ومَن يستطيع “تحديد” الحُبّ؟
أنت “تحدّد” المحدودَ الثّابتَ الدّائم النّهائيّ. أمّا أن “تُحدّدَ” الحيَّ المتحرِّكَ المتحوِّلَ اللاّنهائيّ، فأمرٌ يصعب جدًّا، إلّم يكن مستحيلا.
هو عاطفةٌ نبيلةٌ في أساس البشريّة وحضارتها الأدبيّة والفنّيّة والعلميّة. صحيح! كان الحُبُّ سببًا، عند الله، للخليقةِ كلِّها بمَن عليها وما فيها؛ وعند الإنسان، كانت سببًا لتتابُع الأجيال، وتطوُّر العمران، وحماية الطّبيعة… لكنّه، كذلك، عاطفةٌ طمّاعة هي في أساس الحروب والاضطرابات والفِتَن، وهي في أصل الاقتتال والقهر والسّلْبِ والتّدمير، ما أخّر الإنسانيّة أجيالا. خصوصًا عَبر إحراق المكتبات، وفيها مخزون العقل البشريّ المتفوّق، والأثر الّذي يحترقُ، لا رجاء يُرجى لقيامة، له، جديدة، فتندثر فِكَرٌ، وتُفقَد آراء، وهذا بدورِه، يكون سبب تَخَلُّفٍ وتقهقرٍ، وربّما اندِثار.
هو عاطفةٌ رقيقةٌ، عذبةٌ، نسيميّة العطر، كريمةُ الغاية، نبيلةُ الجوهر. صحيح! وهذه أنتجت ثنائيّات خالدة، وشِعرًا على الدّهر باقيًا، ورسمًا ونحتًا وقصصًا ورواياتٍ ومسرحيّاتٍ وأفلامًا، وكلَّ ما هو راقٍ جميل! لكنّها، كذلك، عاطفةٌ عاصفةٌ، متألّمةٌ مؤلِمة، معذَبةٌ معذِّبة، تعصف وتشتدّ عصْفًا، فتهدم حياةً، وتُسيء إلى الجمال: تحطيمًا وتكسيرًا وتشويهًا لمظاهر حضاريّة، ولنفوس إنسانيّة، ولمحاسنَ فنّيّة جماليّة، فتوقف زمن الإبداع وحالاته، قلقًا وخوفًا. والأدهى؟ أنّ ذلك يحدث باسم الوطن أو الأمّة أو الشّعب أو الدّين أو الطّائفة أو المذهب أو العيلة أو جزءٍ منها أو فردٍ بذاتِه!
هو عاطفةٌ شفيفةٌ راقيةٌ تسمو بصاحبها إلى أسمى مراتب جمال النّفس، وطهارةِ القلبِ، وعزّة الذّات، ووفْرة النُّبْل. صحيح! وهذه قدّمتْ إلى البشريّة، عَبر أجيالِها كلِّها، القدّيسين والطّوباويّين والأولياء، كما الصّالحين والمتصوّفين والنّسّاك الزّاهدين التّاركين المرتفِعين. لكنّها، كذلك، شهوةٌ حَرّى محرِقة، ثقيلة مُثْقِلة، مكبَّلة مكبِّلة، تقول بالحرّيّة وتسجن، تنادي بالجمال وتبشّع، تشهر العشق وتكره، التّسامح وتحقد، التّرْكَ وتحسد.
هو عاطفةٌ لطيفةٌ، نظيفةٌ، شَفيفةٌ، قائدةٌ إلى الصّلاح الخير الحقِّ الجَمال. هل أجمل من حبيبَين ينظران، معًا، إلى الغد، بعزم أكيد، وإرادة ثابتة، وحُبّ صادقٍ قويّ خصب، يَغتني ويُغني!؟ هذا أمرٌ حضاريّ بَنّاء. صحيح! ما قدّم للإنسانيّة نماذجَ حيّةً، جميلةً الجمالَ كلَّه، خيٍّرةً الخيرَ كلَّه، عَبر الأجيال، ولا تزال مِثالا أعلى في التّضحية والوفاء والتَّفاني والإشراق. لكنّه، أيضًا، عاطفةٌ شَرِسة، غرائزيّة، سَميكة، تتّجه بأصحابها إلى السّوء والبَلايا والانهيارات النّفسيّة الفتّاكة بالنّفس وبالجسد، تُغرِقُهم في الأوحال، تطمرُ رؤاهم، فيهلكون.
وماذا بعد؟
بعدُ كثير!
مِثالُ ذلك، أنّ النّاس، “عاديّين” و”غير عاديّين”، رجال دينٍ وعلمانيّين، أُمّيّين ومثقَّفين، فلاسفة وأدباء، “يفهمون” الحُبَّ كلٌّ على هَواه، كأنْ ليس لهذه الّلفظة معنى واحد! ويتناقشون، مبالِغين، كلٌّ يدافعُ عن “مفهومه”, وتتحوّل “المناقَشات” تَنازعاتٍ، وخلافات تنطلق من اختلافات. لا يُطيقُ الواحدُ “الاختلاف”، يفهمُه خِلافًا! أمرٌ غايةٌ في الغَرابة، تجعل الفردَ غريبًا، غريبًا جدًّا عمّا يدافع عنه. هو يفترض أنّه يدافع عن رأيِه في الحُبّ، ويتصرّف بغضب يتحوّل إلى كرهٍ وحِقد وعداوة! وهذا يدعو إلى المزيد من التّفكير في كيف يكون هذا!؟ لَكأنّهم، جميعًا، لا يفقهون معانيَ “الحُبِّ” بما فيه من تَناغُمٍ وتضحيات وسُمُوٍّ وقِيَم.
وتاليًا، هذا ما يدفعُني، مرّةً بعدُ، إلى طَرح التّساؤل:
أغَبيٌّ، أنا، أم أنا صَبور!؟