. هو الربُّ يسوع، كلمةُ الله الأزلي، يعبّر عن حبّه الكبير للبشريّة جمعاء، ولكلّ إنسان، في أيّ حالة كان، بتجسّده الذي جعله شبيهاً بنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، إنساناً مثلنا، متماهياً معنا، ليُعيدَ لكلِّ إنسان بهاء إنسانيّته المخلوقة على صورة الله. وبلغت به المحبّة إلىالموت على الصليب، فدىً عن كلِّ إنسان، وتكفيراً عن خطايا جميع الناس، التي حَمَلها وهو بريءٌ منها، وصلبها معه، وغسلها بدم الغفران. فأرضى عدالة الله، وصالحه مع الجنس البشري، ودعانا لنعيش المصالحة، ونغفر بعضنا لبعض، وننشر في مجتمعنا ثقافة التوبة والغفران والمصالحة.
وليلةَ آلامه وصلبه، في مثل هذا اليوم، أسّسَ سرَّي القربان والكهنوت لكي، من خلال الخبز والخمر، وهما من عمل الإنسان وتعبه، المحوّلَين جوهريّاً إلى جسده ودمه، تستمرُّ ذبيحة الفداء التي تمّت دمويّاً على الجلجلة، فيفيض منها على العالم الغفران والرحمة؛ ولكي يمدّ لنا بشكل دائم مائدة وليمة جسده ودمه للحياة الإلهيّة فينا. وأثناء تأسيس سرّ المحبة هذا، غسل أرجل التلاميذ، لكي يبيّن للعالم أجمع، من جهة، أنه خادمُ محبة الله ورحمته اللّامتناهية لكلّ إنسان، ومن جهة ثانية، أنّه وحده يستطيع أن ينقّي قلب الإنسان ويغسله من خطيئته وشرّه. وهكذا “أحبّنا حتى النهاية”(يو13: 1).
2. يسعدُنا أن نكون معكم اليوم، هنا في سجن رومية ومن خلاله في كلِّ سجون لبنان والشرق، باسم مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، ومعنا سيادة المطران سمير مظلوم رئيس اللّجنة الأسقفيّة “عدالة وسلام”، والخوري جوزف العنداري المرشد العام للسجون، والاب ايلي نصر نائبه والمنسّق العام للسجون في الشرق، وجمعية عدل ورحمة جئنا نحتفل معكم بعيد خميس الأسرار، عيد المحبة والخدمة، لنحمل إليكم محبة المسيح وغفرانه ورحمته، الفائضين من ذبيحة الفداء التي نحتفل بها معكم، ولنقيم باسمه رتبة غسل الأرجل، للتأكيد أنّه “يحبّكم حتى النهاية”. وإنّا بمناسبة عيد الفصح، وهو عيد العبور من الموت إلى الحياة، نعرب لكم عن أخلص تهانينا وتمنيّاتنا، سائلين المسيح الفادي والقائم من الموت، أن يجعل من العيد عبوراً لكم إلى حياة جديدة في داخلكم، تحرّركم من نتائج الخطأ والأسر. ونأمل أن يكتمل تحريرُكم بالعبور من وراء قضبان السجن إلى رحاب الحياة، الحرّة المفرحة.
3. وإنّنا في المناسبة، نحيّي كلّ الذين يعتنون بكم، بدءاً من أهلكم وعائلاتكم، والسلطات العسكرية والأمنيّة التي تسهر عليكم وعلى سلامتكم. ونحيّي بنوع خاصّ اللواء إبراهيم بصبوص المدير العام لقوى الأمن الداخلي، ممثّلاً معالي وزير الداخلية، والعميد الركن الياس سعاده قائد الدرك. كما نحيّي أصحاب المعالي والوزراء السعادة النوّاب وممثلي الاجهوة الامنية الحاضرين معنا. إنهم هنا ليقفوا على حاجاتكم ويسعوا إلى تلبيتها ومعالجة ما يلزم.
4. “أحبّهم حتى النهاية”. إنّ محبة المسيح تشمل كلّ إنسان، وكلّ واحد منكم، متماهياً معكم ومع كل متألم، هو الذي قال: “كنتُ سجيناً فزرتموني”(متى 25: 36)، ثمّ أوضح: “في كلّ مرّة فعلتم ذلك لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد فعلتموه”(متى 25: 40). فلقد تماهى أيضًا مع الفقير والعطشان والعريان والغريب والمريض، حسّياً أو روحيّاً أو معنويّاً(راجع متى 25: 35-36).
وبهذا يدلّ إلى قيمة الإنسان والحياة البشريّة الخارجة من يد الله. فالحياة التي يكرّم بها اللهُ الإنسانَ هي أكثر من مجرّد وجود في الزمن: “فالله خلق الإنسان خالداً وصنعه على صورة ذاته” (تك2: 23). ولذا نصلّي في المزمور 8: “ما الإنسانُ حتى تذكره، وابن البشر حتى تفتقده؟ نقّصته عن الملائكة قليلاً، وبالمجد والكرامة كلَّلتَه!”(مز8: 5-6).
إنّ مجدَ الله يتلألأ في وجه الإنسان. وفيه يجدُ الله راحته. أليسَ من بعد أن أنهى الله خلق السماء والأرض، أبدع في اليوم السادس الإنسان رائعةَ الكون والخلق كله، ثمّ استراح؟ أجل استراح في روح الإنسان وفكره وقلبه، ذلك أنّه خلقه مزيَّناً بعقل، وقادراً على التشبّه به في أخلاقيّته وفضائله، ومتعطّشاً إلى نعمه الإلهيّة. بفضل هذه العطايا الفائضة من جودة الله والتي تزيِّن المؤمنين، يستريح الله في كيان الإنسان(البابا يوحنا بولس الثاني: إنجيل الحياة، 35).
5. في مثل هذا اليوم أسَّس الربّ يسوع سرَّي القربان والكهنوت، سرَّي محبة الله الفائقة ورحمته اللّامتناهية، وقد بلغتا ذروتهما بموته فدىً عن الجميع. فسمّى موته هذا “ساعته”، كما سمعنا في الإنجيل: “وقبل عيد الفصح، إذ كان يسوع يعلم أن ساعته قد أتت، لينتقل من هذا العالم إلى الآب، أحبّ خاصّته الذين في العالم، وأحبّهم حتى النهاية”(يو13: 1).
إنّها ساعةُ الانتقال وساعة الحبّ. ساعة تخطّي الذات والخروج من حواجز الذاتيّة المقفَلة، وبالتالي ساعة الحبّ الذي يخرج من حدود الذات ليدخل في دائرة الله. إنّها ساعة تحوّل الكائن بكلّيته من خلال الحبّ. هذا هو بذل الذات حتى الموت، “الحبّ حتى النهاية”. وقد عبّر عنه يسوع المصلوب في آخر كلمة: “لقد تمّ كلّ شيء”. وأحنى رأسه وأسلم الروح(يو19: 30).
لقد أخفى الوهيته وتحول الى انسان بقوّة الحبّ، لكي نتحوّل بدورنا الى انسان جديد تتلألأ فيه صورة الله، كما ردّد آباء الكنيسة: “تأنّس الله ليؤلّه الإنسان”. إنّه في حالة اجتذاب للجميع كما وعد: “وأنا، إذا ما رُفعت عن الأرض، اجتذبتُ إليّ كلَّ إنسان”(يو12: 32). بنزوله إلينا جعل البشرية عائلة الله الكبرى. فلا أحد غريب عنه، بل جعل الجميع “خاصّته”، كما سمعنا في الإنجيل: “أحبّ خاصّته الذين في العالم”(يو3: 1). حبّه خدمة دائمة.
6. هذا ما أراد أن يقوله لنا، عندما قام عن عشائه الفصحي، العشاء الأخير قبل عبوره من عالمنا بموته على الصليب، إلى عالم الله بقيامته من بين الأموات. أدّى دور العبد مع تلاميذه، فغسل أقدامهم. إنّ حبَّ يسوع الخدوم جرّده من ذاته الإلهيّة، لكي، برمز الغسل، يغسل قلوب البشر، ويحرّرنا من كبريائنا ويطهّرنا من خطايانا وشرورنا، لكي نستحقّ الله. غسلَ أقدام التلاميذ لكي “يقدّسهم بالحق”(يو17:17)، ويجعلهم أهلاً ليقفوا في حضرة الله، وينالوا نعمة الاتّحاد والشركة معه. الحقيقة تغسل باطن الإنسان، وتجعله أهلاً لله، لكي يتحرّر من كلّ انواع الكذب والاحتيال والاعتداء، هذه التي تفصله عن الله. الحقيقة التي تغسل هي حبّ يسوع – الحبّ الذي يذهب حتى الموت، لفدائنا، والتكفير والتعويض عن خطايانا وشرورنا.
أيّها السجناء والسجينات الأحبّاء
7. إنّ الاحتفال بهذه اللّيتورجيا الإلهيّة، الغنيّة بالمعاني، يلقي أضواء إلهية على وضعكم. عدالة الدولة أوقفتكم وتنظر في بتّ دعاويكم. نحن نـأمل أن تكون احكامها عادلةً ومنصفة ومحقّة وسريعة. بهذا التدبير تسعى الدولة إلى منع انتشار الأعمال والتصرّفات والعمليّات التي تنتهك حقوق المواطنين، والقواعد الأساسيّة للعيش معاً في مجتمع متناغم. كما تسعى إلى حماية الخير العام، الذي منه خيرُ الجميع. ولذلك تتمتّع السلطة الشرعية العامة، في جميع البلدان والمجتمعات، أكانت نامية أم متخلفة، بحق وواجب إنزال العقوبات المتناسبة مع خطورة الجرم، لا انتقاماً، بل من أجل إصلاح الضرر المتسببة به الغلطة المقترفة. نرجو أن تقبلوا العقوبة بإرادتكم لأنّها تحمل ميزة التكفير، وتساهم في إصلاح المرتكب، وتحمي الانتظام العام، وتحافظ على أمن الأشخاص والاستقرار.
8. تحضرني الآن لوحة المصلوبَين مع يسوع، كيف الواحد كان يتهكّم عليه ويقول: “ألستَ أنت المسيح؟ فخلِّصْ نفسك وإيّانا أيضاً!. أما الآخر، المصلوب من جهة اليمين، فعاتبه قائلاً: أما تخاف الله وأنت تحت الحكم عينه؟ أمّا نحن فبعدل، إذ نُعاقَب بما فعلت أيدينا. وأما هو فلم يأتِ شيئاً من السوء”. والتفت إلى يسوع وقال: “يا يسوع، أذكرني متى أتيت في ملكوتك!” فقال له يسوع: الحقّ أقول لك أنك، اليوم، تكون معي في الفردوس”(لو23: 39-43).
إنني أدعوكم لاتّخاذ موقف هذا الأخير. أنتم هنا في حالة “خروج” من عائلاتكم ومجتمعاتكم. فمن الأهميّة بمكان أن تعودوا إلى داخل نفوسكم. اخرجوا نفسياً وروحيّاً من الواقع المظلم الذي أدّى بكم إلى هذا المكان. واعبروا إلى حياة جديدة، ونظرة مستنيرة، ومقاصد بنّاءة.
أنتم هنا، نوعاً ما، في “حالة صلب”. فأعطوا هذه الحالة قيمتها من صليب المسيح. وفي تذكار “التحوّل والانتقال” كما ذكرنا، حوِّلوا كلَّ هذا الواقع المرّ إلى قبوله كذبيحة ذات تعويضيّة وتكفيريّة، مضافة إلى ذبيحة الفادي الإلهي الذي “حوّل” حقد الصالبين والحكم عليه بالموت إلى تقدمة ذات للعدالة الإلهيّة، عن حبّ حتى النهاية، فكان الخلاص للعالم كله.
9. أمّا ما يختص بواقع حياتكم في هذا السجن وحياة امثالكم في السجون الاخرى، فنحن نعرف معاناتكم وحاجاتكم ومحنكم وصعوباتكم وعدم مأمنكم من تعدّيات حسّية ومعنويّة وأخلاقيّة وروحيّة. نعرفها بواسطة المرشديّة العامّة للسجون وسائر مرشديات السجون، ومن خلال التقارير التي تقدّمها لنا ولمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان. وإنّا من هنا ومعكم، بحضور المسؤولين العسكريّين والإداريّين والسياسيّين، نجدّد مطالبنا للدولة التي من واجبها أن تتحمّلَ مسؤوليّتها كاملةً تجاهكم. فنوصي ببعض ما تراه المرشديّة العامّة من حاجات، وأهمُّها:
1) تطبيقُ الأنظمة على السجناء وتعديلُ بعض المواد من مرسوم نظام السجون الموروث منذ العام 1949، بما يتناسب مع معايير حقوق الإنسان والقوانين الدوليّة المرعيّة الإجراء، للإنتقال من مفهوم العقاب إلى مفهوم الإصلاح والتأهيل،وعدم تدوين «حُكِم عليه» في السجل العدلي للسجين غير المكرِّر لمنحه فرصة جديدة للإنخراط في المجتمع كما يليق.
2) تحسين الأوضاع الطبّية والصحيّة والبيئية والغذائيّة والأمنية، والحد من اكتظاظ السجون، وتفعيل دور الوزارات المعنيّة والحدّ من الإنتهاكات والتعذيب في بعض أماكن التوقيف.
3) إصدار عفو عن المحكوم عليهم، وهم مصابون بالعمى أو الفالج أو بأيّ مرض عضال آخر أو مسنون وعاجزون عن الإعتناء بأنفسهم، على أن يُبنى، فيما بعد، مآوي ومراكز علاج تتلاءم مع هذه الحالات.
4) تأسيس هيئة مشتركة من الوزارات المختصّة بإشراف وزارة العدل لتشرف على إدارة السجون وتنظّمها، وتعمل على إنشاء الأبنية اللّازمة والكافية، وعلى تنظيم دورات تأهيليّة للعسكريّين والهيئات والجمعيّات، وسائر العاملين في السجون.
5) ايجاد حل جذري للسجناء الأجانب المخالفين للقانون.
6) فصل السجناء الأحداث في مبنى مستقل خارج سجن روميه، مع ما يلزم من إصلاحية لإعادة تأهيلهم وتربيتهم.
7) الطلب من القضاء الاسراع في محاكمات الموقوفين في النظارات والسجون واعتبار كل منهم بريء حتى تثبت ادانته، ولا سيما ان قاعة المحاكمات الجميلة مجهزة لجلسات القضاة اليومية وهكذا يعمل بالقاعدة الذهبية:”العدل اساس الملك”.
8) تصنيف السجناء بحسب جرائمهم، منعاً للإختلاط والتعديات. وجعل السلطة في يد الدولة، لا في يد المتسلّطين والمتزعّمين والجماعات والتكتّلات.
9) ايجاد مصادر تمويل للسجون، وإنشاء صندوق مستقل لدعم السجين وعائلته.
10) تعديل قانون المخدرات لجهة التمييز بين عقوبة المروِّج والتاجر، وبدلًا من توقيف المدمنين، ينبغي تسليمهم الى مراكز التأهيل. والسهر على منع إدخال المخدرات إلى السجون.
11) نحن ندرك أن المسؤولين واعون لهذه الحاجات، لكننا نأمل أن يولوها أولوياتهم. وبهذا الرجاء، نجدد لكم جميعًا محبتنا، ونؤكد صلاتنا، ونسأل المسيح الفادي، القائم من الموت، ان يملأ قلوبكم من سلامه، ويمنحكم نعمة قيامة القلوب لحياة روحية واجتماعية جديدة، بشفاعة أمنا وسيدتنا مريم العذراء، شريكة الفداء، وأم كل مؤمن ومؤمنة.
المسيح قام! حقًا قام!
********
عظة البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي خميس الأسرار – في سجن روميه – الخميس 17 نيسان