بقلم: الأديب مازن ح. عبّود
أبصر “برهوم” نفسه ليلة أمس في المنام جالساً قرب دكان المعلم “شفيق” التي تتوسط سوق”كفرنسيان” المتشعب حتى آخر الدنيا. فرح لأنّ المعلم “شفيق” عاد ففتح دكانه التي التهم بوابتها وأمخالها العفن. ونبت في أفيائها النسيان والضجر والفراغ. اكتشف بأنّ تلك الدكان ما زالت بوابة العوالم والأزمنة الغابرة… حوائطها ما زالت موطن تذكارات وخرائط وجرائد. حلّق طويلا فوق رفوفها الفارغة. فوجد أشلاء رسوم وينستون تشرشل وستالين وهتلر التي خربش عليها الإهمال ولوّنها الزمن.
قال إنه عاين المعلم “شفيق” جالساً، كما أيام زمان، على كرسيه المعهود هناك يلقي بنظراته على المارة. راح يتأمله، كما في فتوته. أنصت إلى كلماته التي راحت تأتي مصبوبة على جنبات دروب نفسه، كي تعيد رسم أطرها وحدودها. وأمسك المسافر العائد سكينه وليمونته التي راح يقشرها ويمضغ بعض لبها. وراح يتلو عليه بعضاً من قصص وويلات الحرب الكونية الكبرى (الحرب العالمية الاولى).
اصطحبه عميقاً في المغاور والجبال والهضاب إلى ماضيه. فأراه كيف غصّت مقابر كفرنسيان بالضحايا، أزمنة الحرب الكونية، حتى ما عاد لمن يموت مكان يركن فيه. أسمعه عويل الناس. وزار وإياه كرم “جميلة “الذي سمع أنّ المياه المقدسة قد أبعدت عنه الجراد، الذي التهم الأخضر واليابس من حوله، من دون أن يقترب منه. جلب من الكرم المبارك عنقوداً احتفظ فيه للأيام الصعبة.
ثمّ شاهد رفيقي كيف كان الأطفال يتخابطون للحصول على قشرة الليمون التي سقطت من سكين أحد وجهاء “كفرنسيان” المحفوظة بالنسيان. سمع بكاء وويلات في كل ناحية. حتى قيل إنّ الأرض أفلقت ومَن تحت الأرض ناح على من فوقها.
أراه امرأة حافية القدمين، نخر الجوع وجهها الذي كان مألوفاً له، وقد حملت رضيعاً. وراحت تكسح ثلوج الجبال ووعورة البراري كي تصل إلى بعلبك مشياً. فتحظى ببضعة أرطال من الحنطة، فتقي عائلتها وحش الجوع. أحسّ بأنه قد القتاها قبلا يوماً ما، في مكان ما!! عاش آلامها وآمالها وإحباطاتها. رأى الموت مراراً يحاول اقتناصها من دون أن يتمكن من ذلك. سمع أنينها. ودمعها ملّح مياه نفسه. سحر بها إذ إنها أبت أن تقع في قبضته. فعائلتها كانت أحق بها، كما كانت تقول. ولمّا مضى عنها أبلغه المعلم “شفيق” بأنّ تلك المرأة كانت أمّ “يوحنّا” جده. ولو أنها لم تسلم، لما كان قد ولد هو. استكان عميقاً جداً. لو عرف ذلك لكان حمل عنها الطفل والحبوب!! لو عرف لما تركها!! لو عرف لكان قبّل قدميها الداميتين، شاكراً لها افضالها.
ثمّ أراه المسافر العائد كيف أنّ الملعون كان يختال في كل تلك الأنحاء، ويحصد الاجساد لكن ليس الكثير من النفوس. فقد كان للناس دين بعد. وقد كان لهم قلوب. كان “شفيق” يبكي وهو يبكي معه. فالظلم كان كبيراً. والمعاناة غيّمت. وظللت المكان حتى اعتقدا أنّ الزمان تسمّر هناك.
حصل هذا وسقطت ممالك ونشأت ممالك. وقع سلاطين وتكوّنت عروش. فالسلطة لا تنتقل إلا سباحة في بحر من الدماء. صنعت نظريات لخدمة الحرب. فللشيطان فلاسفته أيضاً. وقد رحّب الناس بالحروب مع اندلاعها، وصفقوا لها، مؤمنين بحتميتها وضرورتها، تماماً كالعاصفة.
انتهى المشوار. فدعاه المعلم “شفيق”، ككل مرة، يطيب فيها الحديث، إلى القدوم إلى منزله لتناول “الكبة” مع “العرق”. إلا أنه لم يشأ أن يمضي معه. لأنّه حيث كان يستقر الزائر قد أضحى بعيداً ومستحيلا على أصحاب الطبيعة البشرية.
ووافى الصبح. غسل “برهوم” وجهه. تصفح جرائده، فوجد أنّ ذاك اليوم قد تزامن مع ذكرى اندلاع الحرب الكونية الكبرى. فشعر أن الأرواح تناديه للصلاة من أجلها. إنّ الأرواح تناديه وتنادي أناس جيله للتأمل في الحرب وويلاتها. فكل ما يجري اليوم في عالمنا بدأ على ما يبدو يؤسس لحرب كونية جديدة. فالانتقال من العصر الأميركي لن يمر من دون بحر دماء. حدق طويلا في جريدة أجنبية فوجد ما سجّله الزعيم البريطاني “وينستون تشيرشل” في مدونته قبيل الحرب الكونية: “تحكّم مزاج غريب في الجو. تحوّلت الأمم غير المكتفية بثرواتها ومقدراتها إلى الحروب والنزاعات والعنف. تصاعدت المشاعر القومية بشكل غير مبرر في ظل تراجع أدوار الدين، فحرق البشر كل شيء، فكأنّ العالم أحبّ أن يتعذب. وقد تجرأ الناس في كل مكان على المضي في المحاولة”. فأحسّ أن كل ما حصل معه، إنما حصل كي يستفيق ويدرك. ومضى إلى عمله، وفي باله كل تلك الأشياء التي قرر أن ينشرها كي يدرك أهله ذلك.