“مسلم يلبس كهنوت المسيح” سيرة الأب عفيف عسيران وروحانيته (*)

بقلم: المطران ميشال عون (راعي أبرشية جبيل المارونية)

الأبُ عفيف لم يكن إنسانًا عاديًا، بل إنسانًا مميّزًا طبع عصرَه ومعاصريه بما اختصَّ به من عمقٍ في التفكير وصفاءٍ في الذهن ومحبةٍ مُتّقدة تلامسُ اoseiranلكمال الإنجيليّ. وفرادة هذا الكتاب تكمنُ في أن الدكتور لويس صليبا كتب تاريخَ حياة عفيف عسيران ولم يحكِ فقط قصةَ حياتِه. وبين الحكاية والتاريخ يكمُن الفرقُ كلُّ الفرق، إذ اجتهد الكاتبُ في العودة إلى المصادر المُثبَتة، وإلى ما يَرويه شهودُ عيانٍ من شهاداتٍ واقعيّة، وذلك لتوخّي الدِّقّةَ وتجنّبِ المُبالغات التي تبغي أحيانًا تلميعَ الصورةِ وتجميلَها.

وقد جمع الكاتب هذه الشهادات القيّمة التي لا تُقدِّم بحدّ ذاتها سيرةً متكاملة لعفيف عسيران، ولكنها أعطته مادةً ثمينةً أتاحت له، بقراءتِه النقديّة لها ومقارنتِها وإعادةِ تركيبِها وترتيبِها زمنيًا، رسمَ الخطوط الرئيسية لحياة رجلٍ بار تاق طيلة حياته بتواضعٍ لا مثيل له إلى الكمال. وسيرةُ عفيف أو تاريخُ حياتِه لم يُكتَب بعد بالعربية. ولعلّ جهدَ الكاتب يكونُ فاتحةَ خير، ويُساهمُ بطريقة فعّالة في تكوين الملفّ المُزمع تقديمُه ليُرفَع الأب عفيف على المذابح.

–        فتوّتُه والبحثُ عنِ الله

منذ نعومة أظفاره ظهرت لديه بذورُ الفكر الإلحاديّ، وتجلّت في جدالاته الميتافيزيقية عن الكون والمصير وفي تبنّيه لمذهب داروين. وفي غمرة هذا البحثِ الوجوديّ، كان يسير بخطى ثابتة وحثيثة نحو الفكر الحرّ، فقادت هذه التساؤلات الفتى عفيف إلى إلحادٍ مُعلَن طيلة دراسته الثانوية في كلية المقاصد في بيروت والدراسة الجامعية التي أعقبتها في الجامعة الأمريكية.

غير أن إلحادَه كان مؤقتًا وكان مرحلةَ تحوّل. لم يكن نشاطُه بأوجهه الثقافية والاجتماعية والسياسية سوى محاولة للتفلّت والهرب من إلحاح الحضور الإلهيّ في حياته. وشهدت السنةُ الأخيرة من التخصّص الجامعيّ تحوّلاً أساسيًا في حياة عفيف وفكره، ففيها تخلّص من شكوكِه وإلحادِه وعاد مُسلمًا مؤمنًا، وباشر بممارسة فرائضِ الإسلام بصدقٍ وإخلاص راغبًا بتجربة أصيلة وعميقة في الإسلام. غير أنه في قلب هذه المسيرة الروحيّة لإعادة اكتشاف الإيمان ودورِه في حياته، اتّضح له ضرورةُ الاستعانة بتعاليم الأنبياء، فهم المرسلون الأمناء على ما أوحى الله لهم ليبلّغوه للناس.aoun

وعندما لم يعد هذا التقليد الدينيّ يلبّي طموحَه الروحيّ وبحثَه الدؤوب، تركَه ولم يُبالِ بكلِّ ما قد يُسبّبُه تركُه له من قطيعةٍ مع الأهل والمُحيط. لقد عاد عفيف مؤمنًا بالله أكثر مما عاد مُسلمًا. هذا الشوقُ الروحيّ، هذا العطشُ المبرّح إلى الإلهيّ عجِزَ الإسلامُ بالمفهوم العفيفيّ أن يُرويه. في ممارسته للإسلام كان يصلّي الصلوات الخمس اليومية، وكان دعاؤه المستمر يا رب اجعلني أعرفك. فلنسمعه يقول: “لم تكن صلاتي خارجية وحسب، بل تضمّنت التأمّل. ولكنني كنتُ راغبًا في مزيد من المعرفة. من هو؟ من أنتَ يا رب؟ (…) إلى أن اطّلعتُ يومًا على الإنجيل” (محاضرة عن الدعوة، مدرسة الفرير – كفرياشيت في ٤/ ٦/ ١٩٨٨).

–        الإيمان المسيحيّ

إن ما سلب عقلَ عفيف وجعله يأخذ القرار بالتحوّل إلى المسيحية هو قراءةُ “عظة الجبل” في إنجيل متى: “سمعتم أنه قيل للأوّلين…، أمّا أنا فأقول لكم… أحبوا أعداءكم، وصلّوا لمضطهديكم… كونوا كاملين كما أن أباكم السماوي كامل” (متى ٥/ ٢١-٤٨).

يروي المحامي رامز سلامة في شهادة له عن معلّمه وصديقه الأب عفيف: “سألتُه يومًا ما الذي جعلك تتحوّل إلى المسيحية فأجاب: “عندما قرأتُ في الإنجيل أحبوا أعداءكم، قلتُ: “اللهُ هنا”، ولم يُضِف على ذلك شيئًا”. لقد لخّص الأب عفيف دوافعَ وخلفياتِ اختيارِه للمسيحية في سببٍ واحد هو محبةُ الأعداء. ويقول في إحدى الشهادات عن مثاليةِ هذه الوصية وصعوبةِ تحقيقِها: “هذا المثالُ الأعلى عند المسيح لفتَ نظري، وكنتُ أتساءل حقيقةً وأقول: إن هذا المثالَ الأعلى يقرِّبُ من الله ولكني عاجزٌ عن تحقيقِه. ولكن المسيحَ يقولُ في إنجيلِ يوحنا: “من آمن بي يعملُ هو أيضًا الأعمالَ التي أعملُها، بل يعملُ أعظمَ منها” (يو ١٤/ ١٢). ويخلصُ الأب عفيف إلى القول: “كلامُ المسيحِ هذا أسمى بكثير مما أعرفُه عن الإسلام، حتّى عند المتصوّفين”.

كان لقائي الأول مع الأب عفيف سنة ١٩٧٩ وكنتُ يومها طالبًا في المدرسة الإكليريكية الكبرى في غزير في سنتي الجامعية الأولى. دعاه مرةً رئيس المدرسة الخوري (المطران) يوسف بشارة ليعظ لنا الرياضة الروحية الشهرية، ولا أزال أذكر كلامه عن محبة الأعداء حتى النهاية، وعن رفضه كمسيحيٍ مبدأ حقّ الدفاع عن النفس مفضلاً أن يُقتل من أن يَقتل. لاقى هذا الكلام استهجانًا من قِبل الطلاب الاكليريكيين الذين كانوا يدافعون عن التعليم الكنسيّ بحقّ الدفاع عن النفس. أمّا هو فأصرّ على موقفه الإنجيليّ الجذريّ: “أموتُ ولا أقتُل”.

–        الاختبار الروحيّ والعماد

أما الحدث الأساسيّ، الرؤيا التي غيّرَت حياةَ عفيف وقلبَتها رأسًا على عقب، فيُخبر عنها في نبذةٍ عن حياته وُجدت في درجه بعد وفاته حيث يقول: “وفي ليلةٍ بينما كنت أصلّي، وفي السجدة الأخيرة كنتُ أردّدُ بنشوةٍ: ربي زدني علمًا بك وإيمانًا. وإذا برجلٍ قدماه قرب رأسي، وقامته ملأت الأرض والسماوات. لم أرَ قدميه وقامتَه بعيني، إنما أحسستُ به بكل كياني عين واحدة شاخصة به. أحسستُ بقدرةٍ لا متناهية تُمسِكُني، وتُمسكِنُ الكون”.

من الملاحظ أن عفيف يُتبِع روايتَه للرؤيا مباشرةً بذكر الحب الذي كان يربطه بفتاة خلال دراسته في الجامعة الأمريكية، وما كان لهذه الرؤيا من أثرٍ في نهاية القصّة، يقول: “وكنا متّفقَين على الزواج القريب، ومنذ تلك الليلة فُطم قلبي، ووعدتُ ربّي بأن أكرّسَ له جسدي وروحي”. ومما لا شكّ فيه أن قوّته الروحية ومسيرته نحو القداسة كانت انطلاقتُها في هذه الرؤيا.

قَبِل عفيف سرّ العماد في ١٠ شباط ١٩٤٥ وكان له من العمر ٢٦ سنة. وكانت ردّة فعل الأهل والأقرباء والأصدقاء قاسية، فطُرِد من البيت الوالديّ. كان يعيش في شقةٍ صغيرة في حيّ المتحف الوطني في بيروت ويعمل في وزارة الاقتصاد، فانتقل إلى العيش في قبوٍ إبّان وجوده في صيدا في آخر الأسبوع، وكان فيه يختلي للصلاة والتأمّل… وكان يصلّي حتى يتدخّل روحُ المسيح، ويبدّد الغيوم عن العائلة وعن أهالي صيدا، لتنفرجَ الأزمة الناتجة عن قبوله العماد. وكم تعرّض للإهانات والاستهزاء وكانوا ينعتونه بالجنون، أما عفيف فكان يبتسم لهم ويتقبّل ذلك بروح تسامح متذكّرًا ما تعرّض له المسيح من سخرية. وفجر كل يوم كان يذهب ليركع على عتبة منزله الوالديّ ويطلب من والديه المغفرة على ما سبّبه لهما من ألمٍ “وفضيحة” بين سكان مدينته.

في كل ذلك نرى عظمة المحبة التي كانت تختلج في قلبه، لا سيما لأبناء مدينته صيدا، وكان في هذه المرحلة يصلّي ويفكّر بما يريده المسيح منه لنشر رسالته بين إخوانه المسلمين، وكيف عليه أن يُعلن تعاليم المسيح بحياته وأقواله. لذلك اختار العمل في المُحيط الذي ربّاه.

كانت شهادته مؤثرة حتّى لأفقر الفقراء. أراد أن يعيش هذه المحبة بروح التضامن الحقيقي، فاحتضن أولاد الشوارع الفقراء والمشرّدين واهتمّ بتعليمهم وتأمين الملبس والغذاء لهم. كما عمل في المهن الوضيعة زبالاً في صيدا ثم أجيرَ فرّان وبذلك كان يُلزم نفسه بكل ما يمكن أن يخلق حياة أخوة بين الفقراء، مختارًا أن يكون فقيرًا لكي يتمكّن من العيش بين الفقراء. وكان بعمله هذا يُعطي مثلاً عن التواضع المسيحيّ كما علّمنا الرب يسوع، ويشهد لمسيحيّته أجمل شهادة بقربه من الفقراء.

–        تمييز دعوة الله له

في كلّ حياته كان عفيف يبحث عن إرادة الله وعن الدعوة التي يدعوه إليها ليقوم برسالته بين إخوته المسلمين. وهكذا فكّر أولاً بالانتساب إلى “إخوة يسوع الصغار” راغباً في أن يعيش الإنجيل، إنجيل الفقر بين الفقراء. فأبرز نذوره الأولى المؤقتة في ١ كانون الأول ١٩٥٢ وامتدّت المسيرة في رهبانية شارل دو فوكو نحو عشر سنوات قضاها بين طالبٍ في لبنان ومبتدئٍ في الجزائر ودارسِ لاهوت في فرنسا وأخٍ في إيران.

ولكنه في نهاية هذه المسيرة، وبعد تمييز المجلس العام لإخوة يسوع الصغار الذي رأى أن عفيف مدعوٌ لدعوةٍ كهنوتية رسولية في المحيط الإسلامي وليس لحياة إخوة يسوع التأمّلية المستترة، انتقل إلى أبرشية بيروت المارونية حيث سيم كاهنًا مُتّخذًا اسم بولس بوضع يد المطران اغناطيوس زيادة، رئيس أساقفة بيروت، بتاريخ ٢٣ شباط ١٩٦٢ في كنيسة السيدة – عين سعادة.

–        عفيف كاهناً للمشرّدين وأستاذًا جامعيًا

اندفع أبونا عفيف للعمل في رسالته مع الفقراء فأسّس أولاً مؤسسة بيت العناية الإلهية للاهتمام بالأولاد المشرّدين في كفرفالوس ثم انتقل بسبب بعد المسافة إلى الأشرفية حي مدرسة الناصرة، إلى أن استقرّ أخيرًا في الفنار لأن البيت القديم في حي الناصرة كان سيُهدَم ويُمسَح. وفي الوقت عينه، منذ عودته إلى لبنان سنة ١٩٦٢ بدأ بالتعليم الجامعيّ وكان أستاذًا متعاقدًا مع الجامعة اللبنانية، كما علّم الفلسفة والفكر الإسلاميّ في كلية التربية وفي معهد العلوم الاجتماعية وفي الجامعة اليسوعية كلية اللاهوت، فخرّج روّادًا في الحوار المسيحيّ الإسلاميّ. أما راتبه الجامعيّ فكان ينفقه على مشاريعه الخيريّة.

لن أتوسّع بالكلام في هذه العُجالة عن مؤسسة بيت العناية التي تستحقُ وحدَها مداخلةً كاملة، ولكني أكتفي بشهادتي عن أبونا عفيف ورسالته السامية في بيت العناية، وكيف كان دائم الاتكال على العناية الإلهية، يزرع القيم الإيمانية والإنسانية والوطنية في قلوب طلاّبه من خلال مثل حياته وعيشه البسيط وشهادة المحبة التي كان يجسّدها في كلّ ما يقول ويعمل.

وفي خضمّ الحرب اللبنانية عاش الأب عفيف بشكلٍ عمليّ الدعوة إلى محبة العدو التي كانت السبب الأساسيّ في إيمانه المسيحيّ. ولما فرغ بيت العناية في الفنار من التلامذة لفترة بسبب تداعيات الحرب، توجّه نحو الجنوب للقيام بما أعاقته الحرب عن متابعة العمل به في الفنار. وهكذا وصل إلى تأسيس فرعٍ لبيت العناية في تبنين، بدأ كميتم للأطفال ثم أصبح مركزًا مهنيًا.

في كل حياته، كان الأب عفيف عسيران شاهدًا لإيمانه بالمسيح، يشعُّ من وجهه سلامُ المسيح، وعلى ثغرِه ابتسامةٌ رضيّة تعكس ما يحمل هذا القلب الكبير من الحب والفرح والسلام، وكلّها تنبع من علاقةٍ شخصيّة بالرب يسوع.

شكراً من القلب للكاتب الدكتور لويس صليبا على هذا الكتاب الثمين والغنيّ بالشهادات والوثائق، وعلى البحث الدؤوب الذي قام به ليقدّمَ لنا كتابًا مرجعًا لكل من يرغب في التعرّف إلى الأب عفيف عيسران. ويبقى أن أختم كلمتي كما يختم الكاتب كتابه مُشيرًا إلى أن الأب عفيف كان مهندس التلاقي بين المسيحية والإسلام، ويبقى مُلهمًا لنا في رسالته التي جسّدت المحبة المسيحية في حوار العيش المشترك، ومثالاً في كيفية تحقيق ما يدعو إليه الإرشاد الرسوليّ بأن لبنان هو أكثر من وطن، إنه رسالة لكل العالم في الحوار والمحبة والتلاقي.

 *********

(*) محاضرة ألقيت في الندوة حول كتابٍ “مسلمٌ يلبس كهنوتَ المسيح، سيرةُ الأب عفيف عسيران وروحانيته” في إطار المعرض المسيحيّ الثاني عشر، انطلياس (٦ ديسمبر ٢٠١٣).

اترك رد