بقلم: د. عبد الإله بلقزيز (*)
الغرب، في الوعي العربي، غربان، أم أكثر؟ فصورة الغرب التي تكوّنت في الذهن العربي ونشأت لدى الجيل السابق، داخل المجتمعات العربية، من خلال الاستعمار الغربي والاحتلال العسكري لهذه المجتمعات، هي صورة مغايرة لصورة الغرب التي تكوّنت لدى أبناء الجيل الحالي والتي نشأت عن احتكاكه بالغرب داخل المجتمعات الغربية، من خلال العيش فيها والتعلّم في جامعاتها، والعمل في منشآتها.. هاتان الصورتان المتناقضتان للغرب في الوعي العربي، ربما كانت هنالك صور أخرى تتراوح بينهما…
زاد كمُّ المثقفين العرب ممن نَمَتْ عصبيَّتُهُم للغرب وازدهر جَمْعُهم، وباتوا مناصرين للأفكار الحديثة يُحْسَب لهم، في ميزان الرأي، حساب. وقد يكون في الكثرة تلك ما شجَّع بعضاً منهم على فك عُقْدَةِ اللسان وتَسْمِيَةِ العصبية إياها مناصرة للنظام السياسي في بلاد الغرب، وللرأسمالية، والسياسات الغربية، وليس فقط مناصرةً للفكرة الليبرالية الحديثة على نحو ما كان عليه أمرُ الاعتبار بالغرب في ما مضى لدى الأجيال الثقافية والفكرية العربية السابقة. ويُفْهم من ذلك أنه ما عاد جديرًا بالاحتفال، لديهم، إقامةَ الفارق الاحترازي بين “الغرب الثقافي” و”الغرب السياسي”؛ فقد بات هذا من ذاك حكماً، على نحو ما بات الغربُ كليةً غير قابلةٍ للقسمة أو الاجتزاء والانتقاء !
حَمَل على المفاجأة أكثر أن قسماً – قد يكون غالب العدد – من هؤلاء المثقفين المنضوين حديثاً تحت لواء “دولة الغرب” (على مثال عبارة إخوتنا اللبنانيين: دولة الرئيس) هو القسم الذي انتسب قبل أربعة عقود إلى سلالة اليسار، وجاء منها متمرداً يعلن العصيان على كل ما تَلَقَّنَه من ثقافة الرفض لـِ”الآخر”، ليتجدَّد بعصيانه جيش “المقاتلين من أجل الحرية” من المبشرة بـ”رسالة الرجل الأبيض”. ومع أن أَمْرَه لم يكن ميسوراً أمام موجة المَجِّ والمقْتِ التي حاصرت تجذيفه المعاكس من قِبل من خَالَهُ جيش متخاذِلةٍ صُفْرٍ، إلا أن الواجب يقضي بالاعتراف له بالشجاعة الأدبية في الجَهْر بما ظَنَّه من سديد الرأي وحصيف النظر، كائنًا ما كان مضمون ما ذَهَبَ إليه من اعتقاد، وهذا مما يُكْتَب له في حساب النظر…، وهو شأن غير تافه الأهمية. ولكن، ما الذي حَمَل هذا القسم من سلالة اليسار على أن يمحض الغربَ ولاءً حَجَبَه عنه في السابق؟
قد يَحْمِلُ البعضَ على الظن أن جواب البداهة (هو) في أن يَعْزُوَ المرء أسباب ذلك التغيير في الولاء إلى الأخلاق السياسية، فيترتَّب على ذلك – مثلاً – القولُ إن هذا القسم من المثقفين ركب مآربه الشخصية، ذاهلاً عمّا كان يُحْكِم رباطه بقضيته أو بمبادئه، واختار الانتهاز والوصولية بديلاً منها. ومع تسليمنا بأن مثل هذا التمثيل يُسْعِفُ ـ من فرْط تواتُر حالاته في الواقع اليومي للساحة الثقافية ـ إلا أننا لسنا نرى في ذلك ما يشجع على بناء تفسيرٍ لظاهرةٍ أحوج إلى أغوار التاريخ السياسي والثقافي لعلاقتنا بالغرب، منها إلى الالتهاء بتحليل نفسي للأفراد! فنزعم – بمقتضى ذلك – أن عوامل مَيْـل تلك النخبة إلى ممالأة الغرب، والدفاع عن نموذجه ومرجعيته، إنما تنتمي إلى شروطٍ من الوعي جديدة بذلك الغرب جِدَّةَ الظروف والأوضاع التي استجدَّت، فَنَقَلَتْهُ في إدراكهم من وحشٍ كاسر إلى حيوان أليف، ثم إلى كائنٍ منزوع المخالب والأسنان، فإلى سيّدٍ يستحق الاعتذار عن كل سوء فهمٍ سابق!
نريد بشروط الوعي تلك جملةَ الأوضاع التاريخية الجديدة التي هذَّبت فكرةَ الغرب في إدراك هذه الشريحة من المثقفين، ومنها معاينةُ المقدار الهائل من النجاح الذي حققه نموذجُه السياسي والاجتماعي في تلك المنافسة الكونية التي قامت بينه وبين النموذج “الاشتراكي” الذي شدَّهم إليه في ما مضى؛ كما أن منها تحرُّر وعي هذه الشريحة من ثقل اللحظة الاستعمارية: اللحظة التي صنعت للغرب، في الوعي، صورة الشرّ المستطير، وكانت سبباً في بناء كل ذلك الجفاء النفسي والفكري معه؛ فأما نجاح الغرب في تعميم نموذجه، والإطاحة بالنموذج “الاشتراكي”، فقد كان لها أن تبعث الشعور في وعي هذه الشريحة بأن الاشتراكية التي انتظروا أن تأتي يوماً، إنْ هي إلاّ طوبى تعلقت بها المرحلة تعلُّقا سرابياً، أخْفت به حقائق نَضَحَ بها كيانُ الغرب، ومنها الحرية والديمقراطية، والتنظيم العقلاني، والعلم، والتِّقانة، الخ… أي كل تلك المنظومة من المبادئ والقيم التي أخفق النموذج “الاشتراكي” في تمثّلها. وأما تحرُّر وعي تلك الشريحة من ثقل صورة الغرب الاستعماري – وهو ما يعنينا هنا – فقد جرى بقوة التاريخ، وبقوة تقادُم تلك الصورة في الإدراك العربي العام.
فالثابت اليوم أن أكثر أبناء جيل المثقفين الحالي، ممن يمحضون الغرب ولاءً، لم يعش الصدام المباشر مع الغرب الاستعماري، لكونه نشأ وشبّ في عهد “الاستقلال السياسي”، و – بالتالي – لم يتعرَّف على بشاعاته، إلاّ بالسماع والقراءة؛ ومع أن جاذبية الخطاب التحرري – القومي والاشتراكي – أغْرتْ قسمًا منه باستئناف العمل بالوعي الوطني الموروث عن الجيل السابق، إلاّ أنه بات يقرأ تمرُّده ـ اليوم – وكأنه (كان) فقرة في نصّ رومانسي ثوريٍّ صاغته – على نحو موضوعي وتلقائي – مرحلة الشباب: بكل ما تنطوي عليه من مخزونٍ اندفاعي، ومن عنفوانٍ في التعبير عن إرادة إعادة بناء أشياء العالم، بما يتناسب مع الأحلام الكبرى التي تشتعل في هذا الطور. وإذا أضفنا إلى ذلك أن كثيرين من المنتسبين إلى هذه الشريحة قُيِّضَ لهم أن يتعرفوا جيداً على هذا الغرب، من خلال المقروء، أو من خلال المعاينة المباشرة في جامعاته ومعاهده، أو – أيضاً – من خلال الإقامة الاضطرارية فيه، أو سعيًا وراء لقمة العيش… اجتمعت لدينا الأسباب القمينة بتفسير حالة الصلح النفسي مع الغرب من قبل هذه الشريحة. ها هنا يبدو الصلح وكأنه ثمرةُ عمليةِ اكتشاف حقيقةٍ جرى الإجهاز عليها بالطمس والتقنيع الإيديولوجي هي: الغرب في ذاته، أي من حيث هو كذلك، مستقل عن كل
قبْليات أو إسقاطات. مثلما يبدو الصلح إياه وكأنه تصحيحٌ لصورة ذلك الغرب في وعيٍ أَسَاءَ بناءَها تحت وطأة مطالب ايديولوجية.
لا نشك في أن مسألة هذا الوعي “الجديد” بالغرب معقدة، وقد تكون لها أسباب تنتهي إلى المصلحة حكماً. غير أننا لا نَقْوى على تجاهل الواقعة التاريخية في هذه النازلة: ونعني بها الفارق بين غرب الجيل السابق – وما سلفه – وغرب الجيل الحالي. اصطدم الجيل السابق به في وطنه (العربي)، وتحسَّس توحُّشَه وسطوته واستعلاءه في سلوك جيشه المحتل، وإدارته المفروضة على الاجتماع الوطني. وقد يكون ذلك سبباً في أنه مارس مقاومة نفسية ضد أن يرى في ذلك الغرب شيئاً آخر غير صورة المحتل، المتعجرف. أما الجيل الحالي، فتعرَّف على ذلك الغرب في موطنه (أوروبا وأميركا)، بعد أن جَلا عن أرضه، فكوَّن عنه صورة مختلفة كثيراً عن الصورة التي كوَّنها سابقهُ: صورة المجال الحضاري المفتوح على القيم العظمى التي لم يتعرف عليها إلا في الكتب، والتي تَنَامى بريقُها بعدما وقف بالعيان على الجحيم الذي يرزح فيه وطنُه باسم “الوطنية” و”الاشتراكية” وسواها.
هل هو تعارُضٌ في الوعي بين الجِيليْن؟ قد يكون كذلك. ولكن، من ينفي أن الغرب نفسه مسؤولٌ عن ذلك التعارض بحكم انطوائه على تلك المفارقة الصارخة: غرب حضاري ديمقراطي في موطنه، وغرب بربري متوحش في ديار الآخرين؟!
**********
(*) كاتب وباحث من المغرب