بقلم: د. نازك بدير
أن تخوض في عباب بحرِ اثنَين من عظماء لبنان، ميخائيل نعيمه وكمال جنبلاط، يعني أن تكون أعددْت العدّةَ للغوص على مكامن الّلؤلؤ في نتاجَيهما. وأن تختار الإبحار في شعرهما يعني أنّك تحتاج إلى تبصّرٍ، واستعدادٍ للتّخلّي عمّا يدور في فلك الشّخصيّة المحدودة، وأن تنطلقَ، من خلالهما، ومعهما إلى فضاءاتِ الإنسانيّة الرّحبة.
وأن تختارَ الكتابةَ عن علمَين بارزَين في الفكر، والأدب، والعشق الإلهيّ، يعني أنّك تضع نفسَك في تحدٍّ، مع ذاتك أوّلاً، ومع هاتين الشّخصّيَتين العصيّتين على التّفكيك ثانيًا.
أمّا الدّكتورة ناتالي الخوري غريب، فقد شاءت أن تنقّب عن ثروةٍ كامنةٍ في شعر نعيمه وجنبلاط، فطرقَت بابًا عافه كثيرون من أهل القلم. وإذا بها تأخذنا- في كتابها ميخائيل نعيمه وكمال جنبلاط شاعران في معراج الصّوفيّة، الصّادر حديثًا عن دار سائر المشرق- إلى عوالم تنضح رقيًّا، ومحبّةً، وتعيد إلى الإنسان التّوازنَ الّذي افتقده، وتعيدُ، في هذا العمل، نسجَ علاقةٍ بين الأرض والسّماء، بين السّفليّ والعلويّ، بين الظّاهر والباطن.
وجاء الكتابُ في بابين؛ أمّا الباب الأوّل فتناولت فيه خصائصَ البنى التركيبيّة والنّحويّة والبلاغيّة في أبعادها الصّوفيّة. وجعلته الباحثة في ثلاثة فصول، أضاءت في الفصل الأوّل على غلبة طابع الخطاب الصّوفي عند نعيمه وجنبلاط، من خلال النّداء بمختلف صيغه، الّتي ناجى بها الشاعران ربَّهما، التماسًا للرّحمة. أمّا الفصل الثّاني فخصّصته لبحث خصائص التّركيب الجدلي الصّوفي عبر التّكرار والنّفي. وتناولت في الفصل الثّالث خصائصَ التّعبير البياني والرّمزي الصّوفيين.
وقد جاءت الدّراسةُ متكاملةً أغنتها في الباب الثّاني ببحثِ حقيقة الوجود، وهي مسألةٌ فلسفيّةٌ تلاحق الإنسانَ منذ بدء التّكوين، إلى نهاية الزّمان. وبحثت الكاتبة ملامحَ التّكوين الوجوديّ، والبعدَ الوجوديّ والقيمَ الصوفيّة في شعر ميخائيل نعيمه، وكمال جنبلاط. ولقد اتّخذ كلّ منهما النّظرَ إلى النّفس الدّاخليّة طريقًا للاستدلال على الإبداع الإلهيّ، فأثبتا عظمة الخالق من خلال تصفّح الوجود.
وكشفت المؤلّفة عن مكوّنات المنظومة الصّوفيّة في شعريهما، فوجدت أنّ ارتقاء النّفس الإنسانيّة إلى مرتبة إدراك الجمال الإلهي في ذاتها، والتّحقّق في معاني هذا الجمال، هو الّذي يقودها إلى مبدأ الانعتاق والحريّة. فالجمال، يحرّر الإنسانَ، ظاهرًا وباطنًا، لأنّه يحرّر وعيه، ويرشده إلى الإدراك السّامي، ويرقى به إلى عالم القدس والسّعادة. وخلُصَت من خلال تشريح نصوص نعيمه وجنبلاط إلى أنّ مقياس سعادة النّفس الإنسانيّة، مرتبط بمدى كمالها، وتجوهرها بالمعرفة العليا. لذلك كانت دعوتهما إلى التّسامي في الحبّ، للحبيب الذي لا يفنى. وفي هذه المعاني جميعها تلتقي منظومة الشّاعرَين الصّوفيّة مع رؤية المتصوّفة في الدّيانات جميعها.
وتوضّحت أبرز محاور المنظومة الصّوفيّة، من خلال تدرّج البنى المضمومة، من ماهيّة التشكّل الوجودي، إلى القول بوحدة الوجود، الّتي استتبعت القول بوحدة الأديان، ومن ثمّ القول بالتّجلي الإلهي، من مكاشفةٍ ومشاهدة، وصولاً إلى البنى المضمومة، الّتي تناولَت القيمَ من أحوال ومقامات، يسلك بهديها المريدون والسّالكون من المتصوّفين. لقد كان الشّعر في تجربة نعيمه وجنبلاط تساؤلاً عن جوهر الإنسان والوجود، ورغبةً في تغيير صورة العالم، إنّه باختصار، إعادةُ صياغة للإنسان وللوجود.
وفي هذا الزّمن الّذي تغرق فيه البشريّة بالفساد، وتعيش المذابح اليوميّة، يأتي هذا العمل الإبداعي ليضيء دربًا في العروج نحو الخالق والاتّحادّ به. فهو الملاذ من المآسي والشّرور. وبذلك يكون الشّعر الصّوفيّ- نتاج نعيمه وجنبلاط – سفرًا للنّاس نحو الملكوت.
كلام الصور
1- ميخائيل نعيمة
2- كمال جنبلاط