لمناسبة مرور عشرين عاماً على وفاة الفنان بول غيراغوسيان يستضيف مركز بيروت للمعارض معرضاً استعادياً تحت عنوان: “بول غيراغوسيان: الحالة الإنسانيّة” (20 نوفمبر 2013 -6 يناير 2014)، من تنظيم مؤسسة بول غيراغوسيان ممثلة بابنته الفنانة مانويلا غيراغوسيان وبدعم من شركة سوليدير.
يعتبر هذا المعرض الأكثر تكاملاً للفنان الراحل كونه يتضمّن أعمالاً تحاكي تجربته الطويلة على امتداد خمسة عقود، ويشكل إعادة تقويم لحياة ونتاج شخصيّة فكريّة وفنيّة رائدة في لبنان والعالم العربي.
يتضمن المعرض أكثر من مئة لوحة وأعمالا أخرى على الورق لم تعرض من قبل، إلى جانب ملفات أرشيفيّة أصليّة، وقد وصف كل من سام بردويل وتيل فياراث (المشرفان على المعرض) التجربة بالمثيرة “كونها تسمح بإعادة استكشاف عوالم بول غيراغوسيان المتعددة، نظراً إلى الأعمال الفنية والوثائق التي نادراً ما ظهرت للعيان، والتي وفرتها المؤسسة وقدمتها لنا لتعميق أبحاثنا، وتبيّن لنا من خلال مراجعتنا للمواد أن لدى بول ما يشكل شغفاً حقيقياً، أردم الهوة بين التجريدي والواقعي في الفن، وقد سعينا جاهدين إلى إظهار ذلك في المعرض”.
يضيف المشرفان: “لا يتبع المعرض نمطاً تقليدياً من حيث التسلسل الزمني، لكنه يخضع لاعتبارات أخرى آمن بها الفنان وتبناها في معظم عروضاته السابقة، وهي مبنيّة في شكل أساسي على فلسفة لا تعير اهتماماً للزمن الحقيقي والواقعي للعمل المنفذ… لذا كان من الضروري إظهار هذه الناحية في فن غيراغوسيان”.
الذات والعائلة والأمومة
تصوّر القيّمان على المعرض صالة العرض مساحة لا تخضع لمعايير التسلسل الزمني والتاريخي، في سياق عرض اللوحات، فحاولا توزيع الأعمال بناء على المواضيع الأساسيّة التي ركز عليها غيراغوسيان في فنه وكتاباته. تساؤلات حول الذات، العائلة، النساء، الأمومة، العمال، حياة الشارع، الإيمان، اليأس، المنفى، الانتماء، الألم والروحانية… كلها مواضيع تكررت في عناوينه وقادت الانفعالات في بحث الفنان عن التعقيدات غير المتناهية للحالة الإنسانية.
في السياق عينه، نجد أن الأبواب الخاصة بكل صالة، تؤدي إلى صالة أساسية، مستديرة في وسط المعرض، تضمّ رسومات أبدعها بول غيراغوسيان في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومنها مثلاً التصاميم الفنية التي خصّ بها عروضات مسرحية ذاعت في زمانها وحملت تواقيعه بعض معاصريه من شخصيات مسرحية لامعة أمثال: جلال خوري، أسامة العارف، نضال الأشقر. وعلقت على الجدران التي تواجه الخلفيات العملاقة، لوحات من نوع البورتريه، وهي تمثل نخبة الكتّاب والفنانين والمفكرين من أصدقائه، وهذه الصالات، وإن انفصلت عن بعضها فهي تظل متصلة من خلال مضمون اللوحات ومواضيعها، كذلك من خلال التواصل وتطوّر الأعمال.
سيرة
ولد بول غيراغوسيان عام 1925، عاش تجربة المنفى منذ صغره، وظهرت موهبته المبكرة خلال سنواته الدراسيّة الأولى في القدس، ورسم بورتريهات لدعم والدته مادياً.
في الأربعينيات كان لا يزال شاباً تسجل في “استوديو ياركون للفنون” في يافا، ومن الروائع التي أنجزها نتيجة التدريب المكثف الذي تلقاه في تلك المرحلة: “الأزمة” (1948)، “إمرأة أمام مرآتها” وحواء الحامل (1949)، ستجد مكاناً رحباُ لها في المعرض.
عام 1948، انتقل الفنان، اسوة بالعديد من العائلات الأرمنيّة، من القدس إلى لبنان وهو البلد الذي اعتبره الفنان وطنه النهائي وأمضى فيه بقيّة حياته وأسس عائلته وفنه وريادته وشهرته اللاحقة.
لم تكن السنوات الأولى للفنان غيراغوسيان سهلة، على أن أبرز تجلياتها برزت في تعريفه إلى الفنانين اللبنانيين والعرب، ما ساعده على أن يصبح واحداً من أهمّ فناني جيله.
على أن معرفته المباشرة بعمل العديد من الفنانين المعاصرين من خلال صداقاته معهم ومنهم مصطفى فروخ وقيصر الجميّل، أتاحت له التعرف عن قرب إلى الفن التقليدي، ومن ثم إتقانه، لكنه تخلى عن التوجيه الأكاديمي المتبع من قبل معاصريه، لتطوير تركيبة تجريديّة اشتهر بها، بعد سنوات من تثقيف الذات والتصحيح والاستماع والاطلاع على أهمّ المراجع الفنيّة وصولاً إلى الجامعة الإيطاليّة التي التحق بها عام 1957، بمنحة من الدولتين الإيطاليّة والفرنسيّة
عام 1962، سافر إلى باريس والتحق طالباً في Les Atelirers Des Maitres De L’ecole De Paris ، فحاز غيراغوسيان على الثناء في لبنان وخارجه لعمله كفنان وكتاباته الغزيرة كمعلّم وكمؤرخ وكناقد فني.
يتضمن المعرض أعمالا مهمة تعود إلى تلك الحقبتين أبرزها: الرحيل (1957)، الأصدقاء (1958)، صباحية 1962… من تلك الحقبتين في حياته إلى العقدين الأخيرين، تحرر غيراغوسيان تدريجاً من حدود الشخصيّة ذات الخطوط والملامح، منطلقاً بها صوب حالة جديدة أكثر انعتاقاً وتجريديّة كما في “حول الطفل والنصائح الأخيرة” (1978)، “الخطوات الأولى” (1984).
على أن الأعمال التي تعود إلى أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات هي أكثر اتزاناً في اضطرابها وأكثر ثقة كما في لوحتي “انتظار” و”تأليف”، لكن مهما بلغت تساؤلاته لـ الممكن حداً بعيداً ومبالغاً في لوحاته، لم يتمكن غيراغوسيان من تخطي شغفه بالتعبير عن الحالة الإنسانية بكل أوجهها. وهذا يعود ربما إلى كونه آتياً من الشعب وإليه، من المنفى والمهاجر إلى العامل فالغريب، ولا ننسى بالطبع، كاريزما القائد الفطرية التي جعلت كثيرين يتعلقون بفنه وشخصه وكلماته.
“لا أستطيع…
في لوحات بول غيراغوسيان، نساء وأطفال ورجال اصبحوا معه اشكالاً من دون وجوه محدّدة، خطتها ضربات قوية من ريشة الفنان. أبطال غارقون في وحدتهم النفسيّة وعزلتهم الجسديّة في مشحات من الألوان المتلاصقة التي لا تتداخل أبداً. عبّر غيراغوسيان عن ذلك عندما قال في الستينيات: “لدي أصدقاء قالوا لي إن اللوحة يجب ان تعطي الأمل والبهجة للإنسانيّة، كلوحات ماتيس ورينوار… اجبتهم بأنني لا استطيع احتمال هذه الفورة الكثيفة في الألوان. هذا يولّد عادة من براءة طفولة لم أعد املكها. ربما لأنني تألمت كثيراً، إلى درجة لم اعد أملك القدرة على مجرّد التفكير فيها. أغار من أولئك الذين أعطي لهم هذا الفرح… فهؤلاء يستطيعون فعل ذلك”.
صدر عن المعرض كتيّب فني مصوّر سيتبعه كتاب شامل عن الفنان من تأليف سام بردويل وتيل فيلراث خلال 2014، وسيوزع حول العالم.
مؤسسة بول غيراغوسيان
تأسست في 2011 من قبل زوجة الفنان جولييت غيراغوسيان وأبنائه الخمسة: سيلفا، إيمانويل، أراكسي، جان-بول ومانويلا.
تقول مانويلا الإبنة الصغرى للفنان وهي مستشارة ومشاركة أساسية في تنظيم المعرض: “جمع المواد الأرشيفية الخاصة بوالدي كانت عملاً شاقاً، خلال السنتين الماضيتين، وذلك لضخامتها من حيث الكمية، فثمة مئات بل آلاف المقالات الصحافية والصور، بلغات متعددة، توقفنا عندها لنتبيّن آراءه وأفكاره في شتى المواضيع الفلسفية والفنية والإنسانيّة”.
تضيف: “كلماته المدوّنة أكبر دليل على أنه كان السباق في طرح أفكار فنية جديدة على محيطه الفني آنذاك، بالإضافة إلى مواكبة أفكاره لمعارضه. هكذا كان بول غيراغوسيان جريئاً قولا وفعلاً. انطلق من محيطه ليجد صوته مكاناً في ضمير كل من عاشوا تجربته في مختلف أصقاع الأرض.
كلام الصور
1- 2- 3- 4- 5- 6- 7 – 9 – من المعرض