التفاوض بعد أوسلو (*)

بقلم: د. عبدالله بوحبيب 

أوصل اتفاق أوسلو للعام 1993 منظمة التحرير الفلسطينية، وخاصة منظمة «فتح» إلى الأرض الفلسطينية ونشأت، للمرة الأولى منذ سايكس بيكو، abdallah-bou-habib-1سلطة فلسطينية على أرض فلسطين. وبقيت، منذ ذلك التاريخ، خمس قضايا عالقة لم يتوصل الطرفان، الفلسطيني والإسرائيلي، إلى اتفاق حولها برغم محاولات عديدة برعاية أميركية مستمرة.

هذه القضايا هي: حدود إسرائيل والضفة الغربية، المستوطنات الإسرائيلية في الضفة، اللاجئون الفلسطينيون في غزة والضفة والشتات (لبنان وسوريا والأردن)، القدس والمياه. وأضافت إسرائيل لاحقاً مسألة «الأمن» في حال قيام دولة فلسطينية، بينما خرج قطاع غزة من هذه المعادلة بعد انسحاب إسرائيل منه في العام 2005.

إن كلاً من هذه القضايا يحتاج إلى مقالات لشرحها وتحليلها وتبدو من الوهلة الأولى عصية على الحل. كذلك، فإن فشل المفاوضات التي بدأت منذ أسبوعين سيؤدي إلى اهتزاز وضع كل من الكيانين، خاصة وضع السلطة الفلسطينية التي يترأسها محمود عباس بتفويض من المجتمع الدولي بعد انتهاء ولايته في العام 2009.

لماذا إذاً قَبِلَ كل من الطرفين المفاوضات بعدما توقفت في أيلول 2010 وماذا وعد جون كيري الطرفين منذ استلام زمام وزارة الخارجية الأميركية في كانون الثاني الماضي؟

رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو الذي يريد اعتراف الفلسطينيين بدولة يهودية في إسرائيل، سمع جيداً إنذارات «الأصدقاء» في الغرب بأن إلحاق الضفة الغربية بإسرائيل لن يكون لمصلحة الأخيرة، خاصة أن عدد الفلسطينيين في إسرائيل والضفة يزيد على الأربعة ملايين نسمة مقارنة بحوالي خمسة ملايين يهودي، ومن دون تعداد حوالي مليوني فلسطيني في قطاع غزة.

بالإضافة إلى ذلك، وبينما استطاعت إسرائيل أن توطّن من العام 1967 إلى 2013 حوالي ثلاثة أرباع مليون مستوطن يهودي في الضفة، ارتفع عدد الفلسطينيين في الضفة في الفترة ذاتها من ثلاثة أرباع مليون إلى أكثر من مليونين ونصف المليون نسمة، وتنقسم المستوطنات اليهودية إلى حدودية والقدس وضواحيها والداخل. وبينما المستوطنات الحدودية والقدس هي عملياً امتداد لحدود إسرائيل وحماية للداخل الإسرائيلي والقدس الغربية، ينقسم مستوطنو الداخل الذين يبلغ تعدادهم حوالي 200 ألف إلى «مستوطنين اقتصاديين» استولوا على أرض فلسطينية خصبة خاصة في غور الأردن، و«مستوطنين متدينين» استولوا على أماكن سكن فيها أو دفن أحد أنبيائهم. وبينما تزيد نسبة النمو السكاني عند الفلسطينيين عن الثلاثة في المئة، لا تصل هذه النسبة إلى الواحد في المئة عند اليهود.

هذا بالنسبة إلى يهودية إسرائيل، أما أمن إسرائيل، فيبدو أن كيري طمأن نتنياهو بأن واشنطن ستحصّن إسرائيل عسكرياً وتكنولوجياً وأن الضفة الغربية ستبقى مجردة من السلاح الثقيل ومن دون جيش، وأن هدف المؤسسات الأمنية الفلسطينية هو الحفاظ على الأمن الداخلي الفلسطيني وضمان عدم استعمال الضفة مقراً أو ممراً للاعتداء على إسرائيل.
وأخيراً اقتنع نتنياهو أن تعثّر مسيرة السلام مع الفلسطينيين أو توقفها نهائياً، سيؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية وربما سيطرت حماس وعناصر أخرى متطرفة مدعومة من إيران والقاعدة على الضفة، مما يهدد أمن إسرائيل وسلامتها. وفي أحسن الأحوال، قد تسعى السلطة الفلسطينية لدى منظمات الأمم المتحدة، بعد أن اعترفت الجمعية العمومية بفلسطين، لإدانة إسرائيل على ما تقوم به من ممارسات تتعارض مع قرارات المنظمة الدولية وشرعة حقوق الإنسان.

بالنسبة إلى السلطة الفلسطينية، فإن خيار رئيسها، محمود عباس، كان منذ ثمانينيات القرن الماضي مع مشروع الدولتين كما ترأس، بتكليف من رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، فريق المفاوضات مع إسرائيل في أوسلو في بداية التسعينيات ووقّع اتفاق أوسلو في البيت الأبيض في واشنطن نيابة عن منظمة التحرير. وما زال أبو مازن مصراً اليوم على عقد اتفاق سلام مع إسرائيل يعطي الفلسطينيين «دولتهم» في الضفة الغربية وقطاع غزة. كما يستمر عباس بمعارضته قيام كل أنواع المقاومة العسكرية ضد الاحتلال الإسرائيلي. أما استمرار إسرائيل في إنشاء مستوطنات في القدس والضفة الغربية والذي كان السبب الأساس، لا بل الوحيد لوقف المفاوضات بين الجانبين في أيلول 2010، فقد وعد جون كيري السلطة الفلسطينية بأن تحترم واشنطن حدود 1967 بين الضفة وإسرائيل مع تعديلات ومقايضة طفيفة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الوضع العربي والإسلامي غير مشجع للصمود وأن القضية الفلسطينية فقدت إلى حد بعيد امتدادها العربي، ومن ثم باتت مقترحات الرئيس السابق للحكومة الإسرائيلية سقفاً مقبولاً للمفاوضات المقبلة.

باختصار إن الدوافع للسير في المفاوضات هي سلبية بحتة. فالخوف من المجهول ساعد جون كيري على حمل الطرفين على القبول ببدء المفاوضات وإعطاء مدة تسعة أشهر للوصول إلى حلول نهائية للقضايا العالقة. وفي كثير من الأحيان، يعتمد علم «حل الأزمات» على السلبيات للوصول إلى الأهداف مثل اعتماده على الإيجابيات كالفوائد الاقتصادية والمالية وغيرها التي تعتبر مهمة لإنجاح الاتفاق في حين تمّ التوصل إليه. بكلام آخر، إن الخوف مما قد يحصل إذا استمرت المشكلة بين الطرفين قد يحملهما على الاتفاق. غير أن نجاح الاتفاق يعتمد إلى حد بعيد على الفوائد الاقتصادية، خاصة للفلسطينيين.

في اعتقادي، ومن خبرتي مع البنك الدولي حيث اشتركت في تسعينيات القرن الماضي في فريق البنك المعتمد لمساعدة مسيرة السلام، فإن أحد الأسباب الرئيسية لفشل اتفاق أوسلو كان انعدام الفوائد الاقتصادية للفلسطينيين من جراء السلام، لأن المساهمات العربية كانت ضئيلة جداً، ودول الخليج مجتمعة وفّرت سنوياً أقل من خمسين مليون دولار. كان البنك الدولي يواجه صعوبة، خاصة مع دول الخليج، لإقناعها بأن السلام الحقيقي يستدعي سخاءً حقيقياً وليس مساعدة لـ«رفع العتب»، وذلك لأن النهوض الاقتصادي يوفر غطاءً للفشل السياسي إن حصل

(*) السفير، الأربعاء 14 آب 2013

اترك رد