يقلم: د. فهد نصر (*)
منذ بضعة أيام، لم يجد أحد أجهزة الإعلام المحلية أسلوباً أفضل للتعليق على مسألة خاصة بالجامعة اللبنانية إلا تعبير “مدرسة تحت السنديانة”، وذلك على خلفية إمكانية إجراء امتحانات الدورة الثانية في إحدى كليات الجامعة اللبنانية في الهواء الطلق.
أسئلة عدة تبادرت إلى أذهاننا بشأن الغاية الحقيقية من استخدام هذا الوصف، ولماذا، فإذا كان التشبيه هذا بريئاً، فإن الموضوعية كانت تقتضي شرحاً منطقياً من وسيلة الإعلام الكريمة المذكورة. أما وقد انتفى هذا من الخبر، فإن الغرض يبدو واضحاً، ألا وهو محاولة جديدة من المحاولات العديدة الفاشلة للنيل من الجامعة الوطنية، وتشويه صورتها كمجمع علمي ومعرفي عريق، وتبخيس دورها الرائد في البحث والتطوير والتدريس، وهي منذ قيام لبنان الدولة، كانت، ولا تزال، الرافد الأول من الخريجين في شتى الحقول المعرفية، والاسم الوطني الجامع الذي يوحد ما بين اللبنانيين كافة، في عز التفرقة والتمييز والتقوقع.
منذ تأسيسها، عام 1951، والجامعة اللبنانية تواجه احديات ومحاولات دائمة لإضعافها بمزيد من السعي الحثيث لتوفير كل الأسباب لتمكين خريجيها، الذين هم جيش لبنان أيضاً، من مواجهة تحديات العصر، ومتطلبات سوق العمل، والتكيف مع المتغيرات، بعدما آثرت معظم السياسات تحجيم دور الجامعة الوطنية، والتقتير عليها بأبسط الحقوق ومستلزمات البقاء. فقبلت التحدي واستمرت بالعطاء والعمل، على الرغم من شح الموارد! وإن كان في هذا نقيصة تحملونها على الجامعة اللبنانية، فقد كان من الحري بكم رفع قبعة الاحترام لصمودها، خلال كل تلك السنوات، ولاستمراريتها اسماً لا يخرّج الكفاءات فقط، بل الثقة بهم وبشهاداتهم أيضاً، ولن ندخل هنا في استعراض المهارات والأسماء اللامعة التي أنتجتها الجامعة اللبنانية، فالواقع يشهد، ولسنا هنا في سجال للتسويق أو المزايدة.
أمام هذا الوضع، سعت الجامعة اللبنانية إلى ترسيخ ثقافة التميز والإبداع والتطوير لتحقيق الأهداف العلمية ذات المعايير العالمية لدى الباحثين والطلاب على حد سواء. إن سياسات الجامعة اللبنانية الطموحة والواقعية على مستوى البحث العلمي، والبرامج، والمناهج، كانت ولا تزال نموذجاً للعمل الأكاديمي الراقي، القائم على أفضل المعايير العالمية من التنافسية والجودة. وعليه، فإن التضليل المنهجي للرأي العام بشأن مكانة الجامعة اللبنانية، وهي من أفضل الجامعات في لبنان والشرق الأوسط وأرقاها، والمراهنة على انكفائها، ومحاولات وضع اليد عليها من قبل جهات عديدة، والتدخل في شؤون أكاديمية يجب أن تترك لأهلها، لم يعد يجدي نفعا!
فلمن حاول، ويحاول، أن ينتقص من مكانة الجامعة اللبنانية الوطنية لمصلحة الجامعات الخاصة، ولمن يقول إنها لا تقصد إلا من قبل الشرائح الفقيرة والمتوسطة، فيما تشكل الجامعات الخاصة وجهة طبيعية لمن كان في وفرة وراحة مادية، أو ينتمي إلى طبقة اجتماعية مرموقة، معيداً إيانا إلى عصور التمييز والحط من شأن الآخرين… لكل هؤلاء نقول إن التجني والظلم اللذين تتعرض لهما جامعتنا الوطنية يزيداننا إصراراً على ترسيخ مبادئ الكفاءة والتميز والريادة، وصنعة بناء الإنسان الحق وأما الرد على كل المشككين، فإنما سيكون بمزيد من الإنجازات التي يزخر بها تاريخ الجامعة.
إن استقلالية الجامعة الوطنية لم تعد مطلباً فحسب، بل ضرورة وحاجة؛ ذلك أن العمل الأكاديمي بطبيعته لا يرتقي ويتطور إلا بالحرية والاستقلالية، وتوفير الفرص، أفضلها، أمام أجيالنا الصاعدة، معبدين لهم دروب التألق والنجاح وتأمين العيش الكريم. من هنا كانت الجامعة اللبنانية مجمعاً لأكثر الاختصاصات تنوعاً، لا بل أزيد أن آلية تطوير البرامج والمناهج تلحظ دينامية متجددة، تقرأ ما جاءت به رياح العولمة من تحديات، فتواكبها وتتطور معها لتكون المخرجات (Outcomes) متوائمة معها، لا بل إنها تتعداها من خلال مبدإ الاستباقية.
إن استحداث برامج للماستر في جميع الكليات والمعاهد تعنى بكل جديد في العلم والتكنولوجيا، لهو خير دليل على التزام الجامعة بمسيرة الارتقاء إلى مستوى التحدي مهما بلغ شأنه، أضف إلى ذلك، أن من طبيعة الحداثة والتطور التي اتسمت بها الجامعة اللبنانية منذ تأسيسها، اعتماد برامج تركز على إكساب الطالب كل ما يلزمه من مهارات وكفايات ليتفوق في مجال عمله، علما أن الطالب في الجامعة اللبنانية هو متعدد الثقافات والمهارات، اللغوية، والتقنية، والرقمية (Linguistic, Technical, and Digital skills)، ويمتلك شخصية فذة ومناقبية عالية، بمعنى آخر: كل ما يلزم ليحرز نجاحاً محققاً مهما كانت الظروف والمصاعب.
نعم، قد تكون الجامعة اللبنانية ملاذاً للفقراء، ولكن ما العيب في ذلك، أتراه العلم حكراً على ميسوري الحال ونحن لا ندري، ولإيضاح هذا الأمر أيضاً نقول: إن الجامعة اللبنانية هي الحضن الآمن لكل شرائح المجتمع اللبناني، لأنها، وبكل بساطة، لا تتوخى لعبة الأرباح الخيالية، بل لأنها تقدم المقومات الآيلة إلى النجاح وفق المعايير العلمية العالمية الجودة، في البحث والتدريس والتدريب، ولأنها تسعى إلى التعامل مع الإنسان، بفكره، وإبداعه، وعطائه، لا بماله، واقتداره الاجتماعي”.
من هنا، صح القول في الجامعة الوطنية إنها جامعة عالمية بامتياز، وإنني لأدعو كل الطلاب الذين يقفون الآن أمام حسم خيارات انتسابهم إلى المرحلة الجامعية، أن ينظروا إلى الجامعة اللبنانية نظرة الوعي والمنطق، فهي الأم بين الجامعات، وهي الموئل الثقة لاغتراف المعرفة ولحصاد التميز والتفوق وصناعة الرجال الرجال، وهي، وإن ضاقت مبانيها المثقلة بهموم التقاذف السياسي والأمني، فإنها الصدر الحاني الذي يتّسع لأبنائه الوافدين من أي مكان على مساحة هذا الوطن، وللإعلام تبقى كلمة أخيرة: الجامعة اللبنانية هي منكم ولكم، فكم من إعلامي وصحافي هو من خريجي الجامعة اللبنانية، ومن الشاربين من بحور علمها وعطائها. فبادروا إلى حمايتها، ولا تكونوا ممن يدقون المسمار في نعشها، وهي المؤودة حية، أو ممن يلقون في بئرها حجرا، بعد أن ارتووا.
(*)عميد كلية السياحة وإدارة الفنادق في الجامعة اللبنانية